بذل وزراء سابقون جهدا في تغيير مسمى وظائف مدنية إلى أسماء أحسن منها بتغيير أسماء بعض الوظائف والمهن مثل فراش وقهوجي. ومر زمن وسار هذا التوجه، سار على ما يرام - وهو توجه جيد - وكذا مرّ زمن آخر قبل أن يتعود الناس على الأسماء الجديدة. والإشكال - إن وجد - في نظري لا يكمن في الاسم، بل بمردود الوظيفة وتوفرها في جداول وزارة الخدمة المدنية. فأذكر أن معظم الوزارات تعين بمسمى وتجعل الموظف يقوم بأعمال ووظيفة أخرى. ثم إن الفراش في أكثر الأماكن الحكومية كان امتدادا لمقام وهيبة رئيسه. فكم من وزير يفتقد فراشه إذا غاب أو مرض، ولا يفتقد أعضاء جهاز مكتبه، لأن أعضاء مكتبه يلتزمون بتعليمات وتفتيش رئيس القسم. إذاً أوليس الفراش وصباب الشاي أو القهوجي أو حامل المبخرة رجلاً ذا «هيبة»؟. الفراش أكثر التصاقاً بالوزير. بعضهم معروف ومميز لدى دوائر ومصالح أخرى، والبعض الآخر يفخر بأنه «صب» القهوة والشاي لشخصيات عامة كبيرة زاروا الوزير. فهو ب «دلته» يقف بانتظام واستقامة يوافقها ابتسامة في وسط القوم، يتراجع إلى الوراء مرة، ثم استدارة بتسعين درجة حالما يرى فنجان الضيف فارغاً في يده ولا أعلم كيف يجيد هذا وهو على بعد. بعض القهوجية لديهم فن في حمل عدد وافر من الفناجين في يده، والدلة في يد أخرى ويستطيع القرقعة بالفناجين لإعلان حضوره..!. لكن لو سأل أحد قهوجية كبار القوم في رأيهم بتغيير المسمى، لفطن إلى أنهم ربما لا يرغبون تغيير مسميات وظائفهم. في الحجاز كانت كلمة "القهوجي" لا تنطبق إلا على عامل المقهى. تركيّة تعني عامل القهوة. وكان أيضا في زمانه لا يبتعد عن عمدة الحيّ مكانة، فوجوه الحي مرسومة في ذاكرته، ويتذكرهم واحدا واحدا، لأنه يتحدّث مع الكل دون حجاب. وحتى عهد قريب جدا رأى أهل شبه الجزيرة العربية في عملية صب القهوة فنا من فنون الضيافة التي درجوا على تعليمه لأولادهم من الصغر. فهي تعطي الابن مهارة وتُدخله إلى دائرة الثقة والرجولة، ويكسب إعجاب الضيوف. فهي - أي عملية صب القهوة - تأخذ وتيرة خاصة تُبرز الصفة التربوية. وكان عليه أن يُمسك بعدد من الفناجين بيده اليمنى، والدلة باليد اليسرى - وغالبا يُمسكها من خلال مقبض قماش مُصنّع لهذا الغرض، لكون الدلة حارّة. فتصوّروا العملية دلة مليئة بالقهوة الحارة باليد اليسرى، ويد يمنى تُمسك بعدد من الفناجين، ويتحرّك الشخص إلى الأمام واليمين واليسار، ويتراجع إلى الخلف حتى لا يُعطي ظهره لمن هم في رأس الجلسة. أليس هذا فنا استثنائيا لضيافة الكرم وحسن الاستقبال.