كانت والدتي رحمها الله تهيئنا لمعانقة لحظات الفقد في الحياة، كانت ترضعنا حكاياتها التي تعاودنا إياها بين الفينة والفينة، غالب حكاياتها استعادة لمحطات حياتها التي يجعل سردها حية، منذ الطفولة صحبني مع بعض حكاياتها شجن لم يزل بي في كل حين أعاود فيه مع أمي معايشة لحظات تلك الحكايات، حكايات سردت مواجهة المعاناة والفراق وجور الحياة، لصغار عانوا مرارة فقد الأم، واستقرار الحياة، كانوا في ترحل مستمر، وفي مكاشفة تضاريس متجددة، وأمام تجهم متلون. أسماء تلك الأسرة، حملت التفاؤل والأمل والسلامة والمواجهة، اسمها بركة، الجد لأمها سالم بن مبروك، أسرة أمها تنتمي للمباريك، أمها: مسلمة، الخالة: سلمى، أبوها: علي، العمة عائشة، إخوتها: خلف، عمر، سالمة، رحمهم الله جميعا، وحفظ لنا سالمة خالتنا الشقيقة. سالم بن مبروك جدها لأمها، كانت تروي اشتياقه لابنتيه، حينما تذهب بهما الرحلة خلف قطيعي زوجيهما المتواضع من الأغنام بين تهامة والشفا، ظلت وفاته يوما مشهودا في حكايات أمي، يأتي خبر موته وأمها بعيدة، تستمع إلى صدى تأوه الجبال لفراقه، خالتها سلمى في بعد يسمح لها أن تطويه لتصل إلى منزل أبيها، وهي تقسم حنينها وحزنها على شعث الجبال وبطون الأودية التي تطرقها، لتسجل ما يصل إلى ذاكرة أمي عن جمل ابن مبروك، حمل ذلك الجمل مع صاحبه الحب والتسامح والوفاء، فعاش معه لذة الكرم، وحرارة الفقر، (كريم لكنه مقصي)، ذلك ما يصفه به القوم وبقي في ذاكرتهم عنه، وال (مقصي) تعني (فقير) في كلامهم. ما كان يظن ذلك الجمل أنه سيفقد صاحبه، وتضيع منه لحظة الابتهاج حين يرى أصحاب الحاجات من الضيوف ممن تقطعت بهم السبل يتكئون على عدة الجمل التي تكمل أثاث البيت، بيت الشعر، وضيوف ذلك الزمن أصحاب حاجة، لأن متكأهم، وطعامهم اليسير عند مضيفهم هو ما يعينهم على قطع الطريق. قطع الجمل ذلك اليوم هديره ومتابعته للنوق، ليسرع إلى الجمع القليل عند بيت صاحبه، تلفت يمنة ويسرة لم يشهده، نظر إلى شجرة سلم احتضنت ثوبا لابن مبروك، طوح بأغصانها، حمل الثوب بين نابيه، تارة يلقيه ويشمه، وتارة يحتضنه، وصوت حنينه يملأ الجبال، حتى إذا بلغ به الإعياء والحزن مبلغه، عاد به إلى تلك السلمة، يرطب أغصانها بالحنين، ويروض شوكها بالحزن، وظل على ذلك أياما، يستنيم إلى حزنه ويجدد حزن من حوله. اختزن وجدان أمي قبل ذاكرتها ذلك الحنين، فكان الشجن ينساب من هذه الذاكرة، وهي تستشد صبرنا وعزائمنا لمواجهة ما تدلف به الحياة، وتستثير فينا الوفاء والحب. كثيرا ما حدثتنا عن حنين الأب لها ولأخوتها من أمها، حين يكونون في مراعي الأغنام بعيدا عنه، حين استقر حول الطائف مع زوجه وأولاده الصغار، يدلف أخوها الأكبر (خلف)، إلى السوق بالطائف بما معه من جبن وسمن وأحيانا حطب، وأحيانا بضاعة من الوديان التي يقطنون حولها ينقلها بأجر مؤجل يأتي آخر الموسم، في أحد الأحيان شغله شاغل أن يمر بأبيه، يسلم عليه، ويصله برائحة الأحباب، عاد مسرعا إلى (الشرقة)، حيث كانوا، كم كانت أمي بارعة وهي تنقل لنا شجن هذه اللحظة في قلب أبيها، وتملؤنا بها، وفي الوقت ذاته تحتفظ بحرارة العتاب لأخيها خلف الذي لم يسلم على أبيه، وهي تعاودنا بهذه الحكاية، على أنغام زهمة جدي علي رحمه الله حين يقول: خلف تعدّى ولا جاني مع الدرب ما رد السلامِ بغيت أوصي على الورعان يا ورد في روس النوامي كم كانت أمي يا جدي تدلف إليك بتلك الرائحة التي حنيت لاستقبالها مع كل معاودة لها!!