في إطار سعيه الجاد لتشخيص القضايا الاقتصادية الداخلية ومحاولة ايجاد حلول ذات كفاءة عالية لتعزيز تنمية اقتصادية مستدامة، تصدى منتدى الرياض الاقتصادي الأول لقضية التعليم والتدريب والتأهيل حيث تعرضت الدراسة الموسعة للكثير من الاختلالات الوظيفية التي تحتاج الى مواجهة ذكية وصريحة ومحركات بحث واقعية، فإصلاح التعليم في رأيي البداية الصحيحة لوضع مسارنا الاقتصادي على الطريق الصحيح. تناولت الدراسة نماذج لبعض أنظمة التعليم والتدريب والتأهيل التي حققت إنجازات مرتفعة، لكفاءتها الداخلية ومواءمة مخرجاتها لاحتياجات التنمية الشاملة. واتضح لي أن السمة العامة لهذه الأنظمة هي أنها كانت - وما تزال - أنظمة مرنة في أساليبها، ومتطورة في إدارتها، وملتزمة في تبنيها للمنهجية التي تحقق أهدافها المرحلية والاستراتيجية التي جرى تحديدها في إطار الأهداف الوطنية. أعلم تماما أن المنتدى هدف من تقديم هذه النماذج للاستنارة بما تحققه من إنجازات في مجال مستوى المواءمة بين مخرجاتها ومتطلبات سوق العمل المحلي والإقليمي والعالمي، ومدى استجابتها لاحتياجات خطط التنمية المستدامة في بلدانها، فأي نظام للتعليم والتدريب والتأهيل لا يمكن فصله عن النظام الاجتماعي، والمستوى الثقافي السائد في المنطقة المطبق فيها ذلك النظام. المعطيات الاجتماعية والثقافية تلعب الدور الحاسم في تشكيل النظام التعليمي، والتدريبي، والتأهيلي لأفراد المجتمع، وهي تلعب كذلك الدور الأكثر فاعلية في إحداث المواءمة بمستوياتها المتفاوتة بين مخرجات ذلك النظام واحتياجات سوق العمل، ومتطلبات التنمية الشاملة. في ظل ذلك نتحدث عن التجربة الماليزية الجديرة بالاهتمام، وخاصة ادائها الفائق في مواجهة المتغيرات المحلية والدولية وتوظيف ذلك في حديثنا عن جودة التعليم ومواءمة مخرجاته لمتطلبات واحتياجات التنمية الوطنية. تعد ماليزيا من الدول التي خاضت تجربة ناجحة في التدريب والتعليم في العقدين الأخيرين، لأنها انطلقت من بداية صحيحة، عندما تبنت سياسة التدريب على أساس احتياجات سوق العمل الماليزي، فقد تبنت الحكومة سياسة المشاركة والتآزر بين القطاعين الحكومي والخاص لبناء استراتيجية قوامها الكفاءة الإنتاجية، والفاعلية في الوصول للأهداف، والعدالة في توزيع الثروة بين الفئات العرقية في ماليزيا، واستدامة وتحسين جودة السياسات والبرامج التدريبية في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية، فالنظرة للتدريب في ماليزيا شاملة ولا تقتصر على قطاع دون آخر، حيث نجد التدريب لا يستثني أحداً بما في ذلك القرويين، ليفتح لهم فرص العمل في قراهم، للتقليل من الهجرة إلى المدن الكبيرة، ولتحقيق العدالة الاجتماعية وخلق مجتمع متكامل. المسؤولية مشتركة بين القطاعين الحكومي والخاص في التجربة الماليزية التي نرى نتائجها الإيجابية اليوم. يبرز الدور التقليدي للحكومة الماليزية في نظام التدريب من خلال توجيه برامج التدريب ووضع أهدافه وسياساته، وإيجاد بيئة تشجع مؤسسات القطاع الخاص والأفراد والموظفين والعاملين على الاستثمار والمشاركة في التدريب الشامل في البلاد. في البداية كان التدريب في ماليزيا شأناً حكومياً رئيساً، لكن السياسات الحكومية المتعلقة بالتدريب تطورت بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأخيرة ليصبح للقطاع الخاص دور مهم، وقد عزز ذلك أن الحكومة الماليزية اعتمدت التعليم والتدريب وسيلة لتوزيع الثروة بين مختلف الأصول العرقية في البلاد. ولأهمية القطاع الخاص في التدريب تبنت الحكومة الماليزية سياسة مشاركة القطاع الخاص في جميع نواحي التدريب بما في ذلك التخطيط للتدريب، وتطوير مناهجه، ووضع معاييره وتمويله وإدارة مراكزه، والازدهار الاقتصادي الماليزي الحالي هو نتيجة لجهودها في الاستثمار البشري، حيث نجحت في تعزيز نظام تعليمي قوي ساهم بفعالية في عملية التحول الاقتصادي من قطاع تقليدي زراعي إلى قطاع صناعي حديث. بدأت الحكومة الماليزية في السنوات العشر الأخيرة بتشجيع القطاع الأهلي على التوسع في التعليم والتدريب، بينما بقي دورها واضحاً في سن التشريعات والسياسات التي تنعش الاقتصاد الماليزي بما في ذلك سياسات التدريب، فهي تعمل بمثابة المسهل والميسر والمذلل للعقبات التي تواجه مؤسسات القطاع الخاص، وهذه السياسة تتواءم مع العولمة الاقتصادية والتكامل والشفافية والانفتاح الاقتصادي الذي تطالب به منظمة التجارة العالمية والمنظمات الدولية الأخرى. وتبنت حكومة كوالالمبور سلسلة من الاستراتيجيات لإدخال سياسات التدريب إلى حيز التنفيذ الفاعل، كما عملت على جعل الشركات والمؤسسات الماليزية والأجنبية العاملة في البلاد ضمن آلية التخطيط الحكومي للتأكيد على أن سياسات التدريب وبرامجه تعكس حقيقة احتياجات سوق العمل وجزء من الاستثمار فيه. فالتجربة الماليزية في التدريب والتعليم مبنية على المشاركة الفاعلة للقطاع الخاص في تزويد صناع القرار بالمعلومات الضرورية لصنع القرار الحكومي في ما يتعلق بتنمية الموارد البشرية. ولم تتنصل الحكومة الماليزية من دورها الرئيس في التنمية الاقتصادية، بل اعتبرت نفسها شريكاً للقطاع الخاص في خطط التدريب، فالتدريب يعد حاجة ملحة للصناعات الماليزية التي تعتمد على رأس المال المستثمر والقيمة المضافة. فالسياسة الصناعية لبلد يتجاوز عدد سكانه 23 مليون نسمة فرضت نمطاً محدداً من التدريب الفاعل لكي يؤتي نتائجه. تبنت الحكومة الماليزية العديد من المعايير لتشجيع مؤسسات القطاع الخاص على المساهمة الفاعلة في التخطيط لتدريب الموارد البشرية بالتعاون مع الشركات والعاملين والدولة من خلال هيئة تمثل هذه الأطراف شكلتها وزارة الموارد البشرية ، حيث تقوم هذه الهيئة برفع تقاريرها الدورية إلى مجلس الوزراء. وللتأكيد على مشاركة مؤسسات القطاع الخاص في سياسة التدريب ذات العلاقة بتنمية المهارات، أسست الحكومة الماليزية المجلس الوطني للتدريب المهني برئاسة الأمين العام لوزارة الموارد البشرية، ويتكون هذا المجلس من عشرة أعضاء يمثلون القطاعين الحكومي والخاص، ومدة العضوية فيه ثلاث سنوات، وتتركز مهمة المجلس الوطني للتدريب المهني في تقويم المهارات وتقديم المشورة للحكومة في ما يخص برامج التدريب المهنية الجديدة التي يجب تنفيذها، كما يقوم بالتخطيط والتنسيق والرقابة والتقويم للبرامج والسياسات، ويقوم المجلس أيضاً بعمل معايير التجارة الوطنية الماليزية والتخطيط المنهجي للتدريب وتنفيذ البرنامج الوطني لاختبار المهارات، التجارية للحصول على الشهادة في هذا المجال. كما أنشأت الحكومة الماليزية مجلس الأعمال الماليزي الذي يعتبر هيئة استشارية من القطاعين الحكومي والخاص، يرأسه رئيس الوزراء، وتنبثق عن المجلس تسع لجان إحداها لجنة تطوير الموارد البشرية التي تتضمن واجباتها دراسة سبل توفير موظفين من ذوي المهارات والكفاءات العالية لتلبية الاحتياجات الحالية والمستقبلية لسوق العمل في ماليزيا، وهذه اللجنة مكونة من ممثلين للجهات الحكومية وأفراد يحتلون مراكز أساسية في قطاع الصناعات، بالإضافة إلى آخرين من المؤسسات التعليمية والتدريبية، وترفع توصيات اللجنة لمجلس الأعمال الماليزي الذي لا يعد هيئة حكومية تصنع السياسات، لكنه يعتبر مصدراً مهماً لمدخلات صنع القرار في الهيئات الحكومية المعنية بالتعليم والتدريب في ماليزيا. إن نجاح السياسات التعليمية والتدريبية في ماليزيا أدى إلى أن يحقق الاقتصاد تراكما كبيرا من رأس المال البشري، ولتعزيز هذا النجاح وظفت كوالالمبور اعتمادات مالية كبيرة في مجالات العلوم والتقنية حيث بلغ إجمالي النفقات العامة على التعليم 3,7 مليارات دولار وهناك تطورات هائلة على المستوى الكيفي والكمي، وتسعى الحكومة الماليزية توافقا مع عصر الثورة التقنية نحو إعادة تصنيف وهيكلة التعليم بما يؤدي إلى تأسيس ما يعرف بالمدارس الذكية (Smart Schools) التي توفر موارد دراسية ومناهج تساعد الطلاب على رفع قدراتهم التفكيرية والإبداعية واستيعاب التقنية الحديثة. إنها حقاً استعدادات جادة للدخول لعصر الاقتصاد المعرفي عبر التركيز على جودة التعليم والتدريب والالتزام بالمعايير العالمية الرفيعة في بناء المناهج والتخصصات العلمية. ماليزيا نموذج تعليمي شرقي ناجح تقدم نفسها للعالم وخاصة الثالث من أجل التأكيد على جدوى الاستثمار في رأس المال البشري الذي هو أهم عناصر العملية الإنتاجية، الى أي مدى يمكن الافادة من هذا النموذج؟! ٭ عضو اللجنة المنظمة لمنتدى الرياض الاقتصادي