قد يغفل أو يهمل الآباء والأمهات ما يمكن أن يصنعه سلوك تربوي خاطئ في المفاهيم المستقبلية لأبنائهم وتحديد شخصياتهم فيتصرف البعض وفق ما تمليه عليهم معتقداتهم أو أهواؤهم على اعتبار أن هذا الطفل سوف يكبر وينسى.. ولكن الحقائق النفسية والتربوية تصدم هؤلاء الآباء بحقيقة مختلفة.. هذه الحقيقة تؤكد على أن كل ما يمر على الطفل بل وحتى الرضيع لا يعبر دون أن يترك بصمة لا يمكن أن تنسى وانما يغفلها العقل حتى الحاجة لها.. وتحقيقنا هنا عن جانب من جوانب السلوكيات الخاطئة التي تقع من البعض تجاه أبنائهم وهي عملية الاساءة بأنواعها اللفظية والنفسية والجسدية ليس لتأديب أو تأنيب الطفل ولكن قد تحدث من أجل الانتقام من الشريك الذي يمثل أحد الوالدين. ونطرح بعض النماذج الواقعية لهذه المشكلة وآراء الاختصاصيين. من أجل جوال حرمها العلم تتحدث سعاد القحطاني عن مشكلة ومأساة ابنتها التي كانت ضحية خطأ الأم.. تقول سعاد «كانت ابنتي بالصف الخامس الابتدائي وهي من الأوائل المجتهدات وكنت أسعد كثيراً بنجاحها لأنني حرمت طريق المدارس فرأيت العوض في ابنتي الكبرى ولأن والدها لم يتعلم أكثر من معرفته بالقراءة والكتابة فلم يشعر بقيمة العلم وكلما غضب مني ولاتفه الأسباب يمنع ابنته من الذهاب إلى المدرسة أحياناً بالأيام وأحياناً بالأسابيع حتى حصل ما لم يكن بالحسبان عندما اكتشف أنني أملك هاتف جوال دون علمه وكنت استخدم الهاتف لمحادثة أهلي في مدينة الرياض وكان يمنحني هو بضع دقائق كل شهر لمكالمتهم عن طريق جواله الخاص وحين وجدت الأمر سهلاً بمعنى أن حصولي على هاتف جوال خاص بي لن يكلفني أكثر من مائتي ريال أعطيتها ابني الذي يدرس بالمرحلة المتوسطة وحصلت على الهاتف وبعد عدة شهور اكتشف زوجي الوضع ولم يسامحني على التصرف دون علمه فأراد عقابي بابنتي الكبرى وكانت حينها بالصف الخامس وحرم عليها الخروج للدراسة لأنه يعلم مدى رغبتي بتعليمها.. سامحه الله من المفترض أن تكون ابنتي الآن بالمرحلة الثانوية ولكن ماذا أفعل وقد فشل في اقناعه كل أقاربي». ضرة أمها!! كما يحكي السيد عبدالله محمد مشكلته مع زوجته التي تنتقم منه بابنته الصغرى التي تعتقد أنه يحبها أكثر من بقية أبنائه، يقول السيد عبدالله «عقول النساء صغيرة ويبدو أن المرأة تغار على زوجها من أي كائن بشري يحبه بل إنني اعرف رجالاً يشتكون من غيرة زوجاتهم عليهم من أصدقائهم الرجال تخيلوا.. رجال ولكن لأنهم يقضون معهم بعض الوقت في الاستراحات واللقاءات الدورية يشتعل البيت بالمشاكل لهذا السبب فكيف الحال بمن يعيشون معنا داخل البيت وأنا أحب أولادي كلهم بنفس القدر ولكن للصغير دائماً طعم خاص فابنتي التي لا تتجاوز الخمسة أعوام بين أبنائي الستة تحظى بالمزيد من الدلال كونها الصغرى وتتمتع بذكاء مميز في كسب ودي.. المهم أن والدتها هداها الله كلما حصل بيني وبينها أدنى خلاف بدأت تضيق على الصغيرة في كل شيء وتمنعها من اللعب أو متابعة التلفزيون وأحياناً الضرب لأتفه الأسباب كل ذلك يكون سببه الانتقام مني أنا شخصياً وبصراحة تزداد الأمور سوء عندما أواجهها بنقطة ضعفها أمام ابنتها ولكنني لا أتحمل تلك المواقف وفشلت محاولاتي في إصلاح الوضع حتى إنني أحياناً أنادي ابنتي «ضرة أمها» وأعلم أن هذا التصرف خطأ كبير فأرشدوني ماذا أفعل ولا تحتمل أعصابي ظلم الصغيرة نوارة منزلي؟!. ابن أمه! زوجي يعتقد أنني أحب ابني الأكبر وأفضله على بقية اخوته وأحقق جميع رغباته لذلك كلما حصلت مشكلة بيننا فإنه أقصد زوجي يضيق على ابني ويحرمه الخروج من المنزل.. فهل يعقل شاب في الصف الثالث يحرم من الخروج حتى لبقالة قريبة من المنزل؟ هكذا بدأت السيدة (أم مهند) كلماتها وهي أم لخمسة أطفال وتتابع حديثها قائلة: «مهند شاب عاقل وهادئ لا يشعر والده بقيمته ويهوى هذا الأب تهميش وإحباط ابنه وبالكاد يحقق له أي مطلب وكثيراً ما يحرمه المصروف المدرسي لاتفه الأمور ويريد تحريك ابنه بالمريموت كنترول.. أنا وهو دائماً في خلاف على أسلوب التربية ويعلم تماماً أنني أرفض أسلوبه مع أبنائه لذلك كلما أراد استفزازي بحث في أسباب واهية لعقاب مهند وبالتالي الانتقام مني أنا.. بصراحة هي مشكلة ضحيتها شاب لن ينسى يوماً قسوة أبيه.. حتى إنه كثيراً ما يناديه يا ابن أمك.. الأمر مؤلم ومزعج ولكن أين الحل أمام عقليات مختلفة من البشر؟. وتعتقد (أم بدر) وهي زوجة وأم لأربعة أطفال أن الأمر لا يعتبر مشكلة إذا حصل تجاه من يستطيعون ادراك المشكلة وترى المأساة الحقيقية حين يصبح الانتقام من صغار لا تتجاوز أعمارهم الشهور وتحكي مشكلتها قائلة: «والد أطفالي يضرب صغيري الذي لا يتجاوز التسعة أشهر.. نعم انه يضربه بكل قسوة على اتفه الأسباب كأن يمد يده على أشياء أبيه أو ما لا يعنيه من أثاث المنزل أو أي سبب واهٍ ولكن متى يحصل ذلك؟ يحصل عندما يغضب مني أو يحصل بيننا سوء تفاهم فهو يتعمد اغاظتي وغضبي وأنا بطبيعة الحال لا استطيع السكوت عن ذلك فأجد نفسي انفجر غضباً الأمر الذي يروقه ويشعر بالانتصار.. أكيد أن ذلك كله نتيجة رواسب نفسية سلبية ولكن ما ذنبي أنا وصغاري وكيف يمكن أن يعترف أنه مريض نفسي؟ هذا طبعاً مستحيل.. تخيلوا حين اشكو له تصرفه هذا ماذا يقول؟ انه يقول لي لماذا لا تحسني من تصرفاتك إذا بما انك تعلمين عقابك؟! يعني هو يعترف انه يعاقبني بصغاري.. حسبي الله ونعم الوكيل». الرأي العلمي تلك نماذج بسيطة مختصرة مما يحدث عند بعض الأسر ولكن ماذا يقول العلم في هذه النوعة من المشاكل؟ يقول الأستاذ سليمان القطاني أخصائي العلاج النفسي بمركز الطب النفسي السلوكي بالرياض «تلك السلوكيات إذا أصبحت عادة فإنها تقع في دائرة الإساءة للأطفال العاجزين عن التعبير أو الرفض أو المقاومة لصغرهم ولضعفهم من قبل أحد الأبوين أو كليهما اللذين يملكون حق مصيرهم والتصرف معهم كيف شاءوا وأشدها وقعاً الأذى النفسي وهو الأكثر ممارسة تحقيراً وذلاً وشتماً وقمعاً وحرماناً وتهديداً بالطلاق لسهولة استخدامه وتكرارها في معظم الأوقات ولشعور الأبوين أنهم لم يفعلوا شيئاً كما في حال الضرب دون أن يدركوا أن كسر القدم سهل جبره بينما خدش الذات وكسرها تبقى آثارها السلبية في أشكال مختلفة واضطرابات نفسية تظهر في الطفولة كالتبول اللاإرادي.. التأتأة.. الخجل.. اضطراب النوم.. العدوانية.. التخريب.. الكذب وكذلك تحصيلهم الدراسي المتدني وسهولة استغلالهم لشعورهم بالنبذ والحرمان وحاجتهم إلى من يحتويهم وإن كان سلباً والأقسى من ذلك على نفسية الطفل هو عدم الشعور بالأمان والترقب الدائم لشيء مؤذ يجهل حدوثه وهذا ما يعرف بالقلق بل وتمتد تلك الآثار فيما بعد تلك المرحلة لتأخذ منحى آخر في المراهقة والشباب الذي قد يظهر في انحرافات أكثر وضوحاً وجنوحاً يؤول بالمراهق إلى دار الملاحظة وعلى المدى البعيد تكون العلاقة الأسرية القادمة للابن أو البنت ذات شبه وإن اختلفت الصورة». ويتابع الأستاذ القطان «وهناك ما يكون خفياً فيما بعد الشجار بين الزوجين وهي العدوانية المبطنة التي لها وخزها وحرقها القاسي على أي من نفسية الزوجين لأنها تمارس بطريقة ذكية أو لا شعورية ويكون لها انعكاسها غير المحدد والبارز على الأبناء في توتر وضغوط تنساب لهم ويعيشون في ظلها وتأثيراتها.. إن اختيار الأب «الذكر» مثلاً الأقرب للأم لأنه أو لأنها المحببة لها وربما لأنها انثى مثلها إن كان المستهدف البنت فيزيح ما يحمله من غضب وعقد متراكمة على الابنة لعجزه وضعفه من المواجهة مع الزوجة لمعرفة مدى الأثر في ايذاء الأقرب للأم والعكس صحيح وما حرمان الأطفال الصغار من قبل الزوج «الذكر» من حضانة أمهم بعد الطلاق إلا امتداد لهذا الانتقام بعد شجارات استمرت وصلت للفراق رغم وضوح شرع الله وكل القوانين الأرضية في حق الرعاية للأم». ضعف شخصية ويختم حديثه قائلاً «يبدو أن جعل الأبناء هدفاً للانتقام عائداً إلى ضعف في الشخصية أو اضطرابها وجهل في أبسط أساليب التعامل والحوار وكيفية التعامل مع الغضب ويكون أكثر ألماً حين يكون الانتقام للأطفال من قبل الزوج «الذكر» الذي يعد الراعي الأول وصاحب القوامة والقادر على حل مشاكله بطريقة عقلانية وواقعية دون ضرب أطفال أبرياء أو ممارسة لعدوانيته اللفظية أو المادية لامرأة لا يغلبها ولا يهينها إلا لئيم بينما الرجال تأبى نفوسهم الكبيرة في مواقف الاختلاف والشجار أن يتجاوزوا إلى الاساءة للأطفال أو الزوجة». تأثير العلاقة الزوجية أما الدكتورة خلود عبدالله أشقر - أستاذ مساعد مديرة قسم التربية الخاصة كلية دار الحكمة الأهلية، فتقول: «الوالدان والأبناء يكملون حلقة تدور معظمها على سؤال مهم وجذري ألا وهو كيف تكون التربية وما هي أفضل الطرق التي يمكن استخدامها لتعديل سلوكيات الأبناء؟ تصرف الوالدين مع أبنائهم يعتمد اعتماداً كلياً على الشخصية، الخبرة، التعليم، التوقعات، الحالة الاجتماعية، وعوامل أخرى تؤثر جميعها في ردود فعل الوالدين نحو سلوكيات أبنائهم ومن أهم هذه المؤثرات هي العلاقة الزوجية ومدى استقرارها وبالتالي مدى امتداد هذا الاستقرار إلى الأبناء، كثيراً ما يشتكي الوالدان من سلوكيات أبنائهم غير المقبولة ويسعون إلى ايجاد حلول تساعدهم في تعديل هذه السلوكيات ولكن ما يحدث في الغالب هو اما أن يقف سلوك الطفل المراهق لفترة قصيرة ثم يتكرر السلوك أو أن يغير الوالدين الطريقة المستخدمة في تعديل السلوك ولكن دون جدوى». وتتابع «من الأساليب المستخدمة والتقليدية هي الحرمان، التهديد، الضرب، الصراخ، وأحياناً تستخدم طرق أكثر إيجابية مثل التفاهم والنقاش والتعامل مع المشكلة». الحاجة للحب أهم من الطعام ولكن لماذا يبقى الوالدان في هذه الحلقة دائماً من غير حدوث تغيير جذري؟ تضيف الدكتورة خلود «لقد اهتم المسؤولون عن رعاية الأطفال وتربيتهم في الدول المتقدمة بإعداد استراتيجيات وأساليب تربوية تقوم الأطفال والمراهقين بسلوكيات معينة، وتكون الأسرة هي المعد الأساسي للبيئة التي ينمو في ظلها الطفل، فالوالدان لديهما الحق والواجب على تقديم جميع الاحتياجات الجسدية والصحية للأبناء وهذا هو ما تقتصر عليه بعض الأسر وهناك نوع آخر من الأسر يهتم بتقديم الرعاية العاطفية والتي تشتمل على الحب، الاهتمام، الاحترام، الحماية، الأمن.. وهنا تكون البيئة الأسرية أكثر نجاحاً في التقليل من السلوكيات السلبية لدى الأبناء، كما أنه ضروري جداً وواجب على الأسرة تقديم ونقل القيم الثقافية والمعتقدات الدينية والمعايير الاجتماعية من خلال القدوة والتعليم والتدريب لتنمو لدى الأبناء سلوكيات جيدة.. رغم أنه من الضروري أن نرى الأسرة تتعامل بطرق تتيح النمو والشعور بالسعادة إلا أنه من المهم التعرف على أنماط التفاعلات الأسرية التي تؤدي إلى نشأة المشكلات لدى الأطفال ومن هذه الأنماط أن يتلقى الطفل تعليمات مختلفة من مصادر مختلفة في نفس الوقت وهذا يسبب ارتباكاً وتوتراً في نفسية الطفل والمراهق ويتكون لديه خصائص عدم الاتزان الذاتي ولا يصبح لديه اتجاه سلوكي محدد وواضح.. كذلك بعض الأسر المضطربة تفتقر إلى الانسجام والتوافق في العلاقة الزوجية فإذا فشل التماسك أو الوحدة الأسرية تؤدي إلى تفاقم المشكلة وحدوث صراع حاد في نظام الأسرة وينتج عن هذا التفكك اما تخلي أحد الوالدين عن تحمل المسؤولية أو تزايد المشاكل الزوجية وما ينتج عنها من غضب أو انفعالات على الأبناء من باب الانتقام أو لأن أحد الوالدين ليس لديه القدرة على مواجهة الآخر ومواجهة السبب الأساس والرئيسي في المشكلة وهنا نقف عند أنماط هذه الأسر المختلفة ونطرح سؤالاً يتعجب له الكل وهو ما الذي يجريء الوالدين على أبنائهم بهذه الطرق غير المنطقية؟ فنحن نرى والدين يتضجرون ويدخلون في حالة من الانفعال ويصبح لديهم عدم القدرة على التحكم في تصرفاتهم تجاه سلوك أبنائهم وخاصة عندما نرى تصرفاً مختلفاً تماماً لنفس سلوك الطفل في حالة يكون الوالدان هادئين، تعامل ليس فيه أي نوع من الاستمرارية ترددات مختلفة في ردات الفعل منفصلة تماماً عن سلوك الطفل، حيث إن السلوك ليس المسبب الرئيسي في هذا الهجوم ولكن ضغوط وعوامل خارجية أخرى تعطي الأم أو الأب الأهمية في تفريغ هذه الطاقات على أبنائهم.. لنقف لحظة ونتأمل موقف تكون فيه الأم غاضبة ومنفعلة وتبدأ بالتهجم على ابنها ويبدأ التهديد أو الحرمان أو غيرهم من الأساليب غير الفعالة بهدف غير مباشر وهو تفريغ شحنات من الغضب على طفل وهنا أنادي أن تتأنى الأم للحظة وتفكر أن الطفل ليس له ذنب في هذا الشعور السلبي وأن الأم يجب عليها معالجة السلوك بما يتناسب مع السلوك بمعنى ألا يبالغ في ردة الفعل وأن تدرس أسباب حدوث السلوك غير المرغوب به ومحاولة تعديل ذلك أولاً.. من الضروري جداً أن يفصل الوالدان بين الضغوط الأسرية، العملية، الشخصية والأبناء.. فالأبناء هم بحاجة ماسة لمن يفهمهم ويحتويهم ويتعامل مع سلوكياتهم بأسلوب تمهيدي، علاجي، هادف.. وهنا أنصح الوالدين بقراءة بعض الكتب التي تستهدف الوسائل والطرق البناءة التي يمكن أن تتبع لتقويم سلوك الأبناء، كما أن هناك الكثير من المحاضرات والندوات التي تقام بصفة دورية للوالدين في الجامعات والكليات الخاصة ومراكز الاستشارات التربوية التي تساعد على تعميم التوعية في هذا النطاق وتعريف الوالدين بأمثل الطرق الفعالة في كيفية التعامل مع المشاكل والعوامل الخارجية وفصلها عن التربية وتعديل سلوك الأطفال والمراهقين ونطمح هنا جميعاً أن نرقى بسلوكياتنا وأنماطنا الأسرية لنصل إلى الرقي والاستجابة من أبنائنا فنحن المثل والقدوة.