لم يجد في لحظته تلك غير المسافة الفاصلة بين ما يتراءى له، وبين ما هو فيه، بين ما يسعى إليه، وبين ماتتسع المسافة لمناهضة ما يريد، أو حتى ما ينبغي أن يكون له، وما سوف يحصل عليه كحق مشروع. لم يجد وهو يتقاطع مع اللحظة سوى الانسحاب منها مؤقتاً ليعيد تدويرها عندما يستيقظ في الغد. انسحب تدريجياً دون ان يتحكم في قدرته على صناعة مواجهة مفتوحة بين ما يشغله، وبين ما يهيمن بلا ضوابط، ولايمكن حتى التحايل عليه بتأجيله إلى زمن آخر. تراءى له.. ولكنه أصرعلى ان ما يراه يجري داخل إطار استحقاقه له، استنطق ما يراه، وما يحاصره باستفهام وتوقف متأكداً ليلمس واقعية اللحظة ويتحرى عنها. اتسعت المسافة أمامه وتحرك هو دون أن يكون مخولاً بإحضار كل ما هو وهمي كما يعتقد. تفاهم مع تلك اللحظة التي طالما تقاسم معها المشاعر العدائية وكأنه يراها للمرة الأولى. اشتكى من عدم قدرته على التقدم رغم كل ما يقوم به لكن سطوع الضوء الذي يدفعه إلى ملامسة ما يريد لا يدهشه فقط ولكن يدفعه إلى طلب المزيد. لم تعد لديه هموم هكذا فجأة غابت، وكأنها انتظرت مخلّصاً ليخلصها. لم يعد لديه أشياء تنقصه وسينخرط في استكمالها، أو البحث عن جبهات ميؤوس منها للحصول عليها. كان يريد مسكناً لا ينتظر سنوات طويلة من أجل أن يحصل عليه. وكان يريد ان يصوغ تفكيره في أمور إيجابية بدلاً من التفكير المستقل في هموم الصحة والمرض والألم، وهو الذي لم يمتلك تأميناً طبياً في حياته، وظل هاجس الإصابة بالمرض، والتلكؤ على أبواب من يمتلك منحه واسطة دخول مستشفى يليق بالمريض، ولا يعامله بصفته طارئاً عليه أن يغادر بنصف مرضه، لوجود مريض كامل بالانتظار. لا يريد ان ينتظر سنوات ليحصل على موعد لا تتجاوز مدته نصف ساعة، زادت المسافة التي منحته كل شيء، وانطوت على أريحية طرح كل الأسئلة التي لم تسأل. اكتشف أن المسألة التي تدفع للحصول على كل شيء أسهل مما يتخيل فها هو يصل بسرعة إلى رصيف طالما اعتبره صعباً وهو الذي ظل مهموماً به، سقف الرواتب لمن يعملون في الشركات الخاصة، والمدارس الأهلية، سبعة آلاف من 1500 يحسم منها الغياب، والساعات المهدرة وغياب التأمين والتهديد بالفصل تحت أي ظرف. لم تعد مشكلة المال تؤرقه، وهو الذي اعتاد على ان لا يكون هناك شيء معه، لم يعرف الادخار في حياته، فكل ما يصله تلتهمه الحياة بالتزاماتها التي لا تنتظر. اعتاد في هذه اللحظة أن يحتفظ بهمومه لنفسه، ولكن هذه المساحة المفتوحة جعلته يخرج عن صمته وارتباكه ويصادر همومه التي كانت تبدو له مستحيلة ويودعها هنا. كم هو مذهل أن تُمنح كل شيء، دون جهد، وكم هو مذهل ان يسألك أحد ماذا تريد؟ ويشعرك ان تحقق دون مناقةش. لم يعد مثقلاً بهمومه المتعددة والتي هي الهموم العامة للأغلبية والمسببة للقلق ويأتي أولها المال والذي لا يحتفظ به للغد، ومن ثم الصحة والعمل والتقدم في العمر.. هذا ما قرأه قبل ان يخلد إلى فراشه من هموم تؤرق البريطانيين ويحتفظون بها ولا يتقاسمونها مع غيرهم لتخف وطأتها، قرأها واودعها داخله وآنس بها لأنها همومه بل وقد تزيد عليها. استيقظ صباحاً وقبل ان يغادر فراشه اكتشف انه كان يعتلي الأغصان المتكسرة، وان حياته تدور داخل الحياة اليومية التي اعتادها، وأن ما تحقق لم يخرج عن سطوة السيدة لحظة الترائى التي طالما توسطت الليالي المؤلمة، وضيقت المسافة بين الألم والنوم. تحرك ببطء لكنه أسرع بعد أن تأكد انه تأخر عن مواعيدها.