ليتني ثالث اللي روحوا للجراد واتبع المكن في ممساه معهم وأصيد ودي المكن الأدهم كل يوم يراد كان أبجرد مع العفري وعنق الفريد نجتمع في جراد البر زين المصاد نختشر ما يصير أحد عن أحد يصيد أبيات من قصيدة توثق إحدى احتفائيات (الجراد) ومطارداته الممتعة حصلنا عليها بواسطة زميلنا الرائع «محمد السبيل» -الشاعر ومقدم البرامج المعروف-, حيث كان شاعرها يتمنى لو كان ثالث فتاتين أغراهن مرور ذيل سحابة جراد عابر حجبت الضوء وأحالت بقية يومهن إلى ظلمة, وقدرنّ بفطرتهن سرعة طيرانه وقسمنها على الوقت الذي يفصل بينهن وبين لحظة غروب الشمس، وهو الوقت الذي يحط فيه الجراد رحاله ويبات ليلته في انتظار شروق شمس اليوم التالي؛ فرحلن بأثره حتى يدركنه في مكانه المحسوب، وهنّ يعرفن أن الجراد لا يطير في الظلام والبراد إلاّ مكرهاً, وكانت أمنيته لو كان قد رافق فتاتيه (ألعفري) و(عنق الفريد) حتى يتتبع معهن اصطياد (المكن) وهي إناث الجراد المكتنزة بالبيض. الجرادة تحمل عشراً من صفات الجبابرة: وجه فرس، عينيْ فيل، رقبة ثور، قرن أيل، صدر أسد، بطن عقرب، فخذي جمل، أرجل نعامة، ذنب حية وبحسب لغة الشعراء فإن الفتاتين قد ذهبتا بمفردهما أو مع ذويهن، لكن الشاعر لا يرى في عينه غيرهن هذا قبل أن يكشف شاعرنا مطامع وأمنيات غرامية أخرى قد لا يتاح لهن تحقيقها، إلاّ بمثل هذه اللحظات التي تسقط بها المحاذير ويجد بها العشاق فرصة اللقاء العفيف بمن يحبون، وتحديداً عندما ينهمك الجميع ويصرفون كل اهتمامهم بملاحقة الجراد وجمعه تحت جنح الظلام. «إذا جاء الجراد انثر الدواء» رغم أنه أشد الآفات تدميراً للمراعي من صاد الجرادة شواها هكذا كانوا يحتفلون بمرور سرب جراد أو تناقل أخبار مبيته على مسافة من قراهم أو مضارب خيامهم طار آلاف الأميال وقطع البحر قادماً من مجاهل القارة الأفريقية هرباً من الجوع في أيام القحط بحثاً عن الطعام؛ فيتلقفه أهل نجد وجياع الجزيرة العربية الآخرين ولسان حالهم يردد: نجدٍ يعزي عن غثاها عذاها لو هي مقر (الفقر) في ماض الأزمان نركض ومن صاد (الجرادة) شواها وللنار من عقَّب من المال دينار لتتحرك القرى والمضارب كاملة برجالها ونسائها وأطفالها ليلاً يمتطون جمالهم وحميرهم أو ركضاً على أرجلهم بعد أن يطوف طائفهم وهو يردد صيحة الجراد المعروفة (جرادووه..جرادووه)؛ يخبرهم بمقدم الجراد، فيضعون ما في أيديهم ويركضون حاملين كل ما تقع عليه أيديهم من أكياس فارغة، وأوعية وأوان منزلية من قدور طبخ وأباريق، وكل ما يستطيعون ملئه بمحصول الجراد الذي يعتبر مروره موسماً لا يتكرر، ولا يمكن تعويضه حتى إن بعضهم يضطر إلى خلع ثوبه وتحويله كيساً يملأه بالجراد حتى لو عاد نصف عار إلى منزله. أشهر الأسواق في الرياض وبريدة وحفر الباطن والأحساء غرف الجراد ولأن الجراد لا يستطيعون صيده إلاّ في حالتي الظلام أو البرودة الشديدة؛ فغالباً ما تبدأ ملاحقته وغرفه من الأشجار ليلاً إن أسعفهم ضوء القمر أو تلمسوه بالظلام، والبعض يلجأ إلى إشعال النيران وإن شق عليهم اقتلعوا الشجرة بما فيها من جراد وأودعوهما أكياسهم، إلاّ أن بعضهم يبات ليلته إلى جوار (المراح) -أي مكان مبيته- في انتظار ساعات الصباح الباكرة، وهي اللحظات التي يكاد ينشل بها الجراد، ويفقد حركته مع تصاعد البرودة وبلوغ ذروتها، بالإضافة إلى أن هذه الفترة هي بداية انجلاء الظلام ومقدرتهم على تجنب خطر هوام الصحراء من عقارب وثعابين والتي يغريها هي الأخرى وجوده فتخرج من بياتها لتشاركهم الغنائم. لا يستطيعون صيده إلاّ في حالتي الظلام أو البرودة الشديدة أسواق الجراد وتزدهر تجارة الجراد في بعض المناطق ويتحول إلى نشاط وحرفة بواسطة ما يعرفون ب (ألجرَّادة) المشتغلين بصيد وبيع الجراد في أسواق المدن حتى باتت لا تخلو مدينة من مدن الخليج من سوق يعرف ب(سوق الجراد) الذي كان يجلب على ظهور الإبل والدواب، وحين ما ظهرت السيارات اشتهر لدينا في الأسياح والقصيم عامة ما عرفوا بالجرَّادة الذين يتشاركون باستئجار سيارة تتبع معهم أماكن نزول الجراد لبضعة أيام، وقد يسافرون في طلبه مئات الكيلو مترات ويُبيَّتون مكانه، ثم يجمع ويعبأ حياً داخل الأكياس (خياش) تخاط أو تربط جيداً لمنع الجراد الحي من القفز، وينقل إلى أسواق الجراد في الرياض وبريدة وحفر الباطن والأحساء كأشهر الأسواق، إضافة إلى بعض أسواق مدن المملكة الأخرى. وكانت أسواق الكويت من أنشط الأسواق وأكثرها حركة؛ ففضّلها المشتغلون بتجارته، حيث ينقل إلى هناك ويباع بضعف القيمة التي يباع بها في أسواقنا، ثم يقايضونها بالقماش والهيل والصلصة والقاز وبعض السلع، وكانت هذه الأسواق تأخذه صفة مغايرة عن بقية الأسواق، وأبرز ما يميزها صوت الدلال (المحرج)، وهو يتنقل من كوم إلى آخر -والكوم عبارة عن اكياس (خياش) أو ثوب ربطت اكمامه وحول إلى كيس معبأة بالجراد الحي- وهو ينادي بأعلى صوته.. وين راع الجراد (التهامي) اللي ما صيد إلاّ اليوم.. فيما يقاطعه دلال آخر الجراد (الزعيري) الطيب السمين مجيوب من الدهنا، ويصيح محرج آخر ياشاري كوم (المكن) النظيف اللي ما خالطه شجر -والمكن هي الاناث المكتنزة بالبيض-. وكان البعض عندما يجد شجرة عرفج مثلاّ مملوءة بالجراد يقطعها ويدخلها الكيس مع ما بها من جراد؛ فيأتي نصف الكيس شجراً وكثيراً ما يأتي مشتر فيدخل يده في أحد الأكياس لتفحص ما بداخلها من جراد؛ فيتفاجأ بثعبان تم حشوه في ظلمة الليل دون علم منهم يلتف على يده ثم يلدغه. نركض ومن صاد «الجرادة» شواها وللنار من عقَّب من المال دينار ويتحول سوق الجراد إلى مطاردات أخرى من قبل الأطفال بنين وبنات، ويخرجون يحمل كل واحدٍ منهم كيسا أو جرابا أو (شرابا) يدورون في السوق والأماكن القريبة لملاحقة الجراد الذي يفرّ أثناء عملية التفريغ أو المعاينة وكان من المألوف أن يلاحق طفل رجلاً يسير في السوق فيقول له (وقف يا عمي ابا آخذ الجرادة اللي على ظهرك أو فوق رأسك)، فيقف الرجل وهو يبتسم ويجلس أو يحني ظهره للطفل. أطباق من الجراد المشوي بعدة نكهات غذاء ودواء والجراد الذي يعتبره عرب الجزيرة غذاءً ودواءً ويقطعون بحقيقة مقولتهم المعروفة (إذا جاء الجراد انثر الدواء)، ويعني ارم الدواء الذي لم يعد له حاجة باعتباره كبسولة علاج تمر على كل أنواع الأشجار والأعشاب، ومصادر استخلاص الدواء وتأكل منها, ويعتبرونه أيضاً غذاءً يوفر عليهم بعض تكاليف معيشتهم الشحيحة، خصوصاً أن لديهم طرقاً لحفظه وتخزينه طوال العام تعتمد على سلقه بالماء والملح، ثم حفظه مجففاً، وبعضهم يقوم بطحنه وخلطه مع الدقيق والتمر. الجراد أشد فتكاً بالمحاصيل الزراعية أشد فتكاً ورغم أن الجرادة تحمل عشراً من صفات الجبابرة -كما يقال-، وهي: (وجه فرس، وعينا فيل، ورقبة ثور، وقرن أيل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وفخذا جمل، وأرجل نعامة، وذنب حية)، ورغم هذا إلاّ أنها تبقى حشرة ضعيفة تصطادها أضعف الحشرات والطيور، إلاّ أنها مع ضعفها وهوانها عُرفت كأشد الآفات ضرراً وأكثرها تدميراً للمراعي والحقول وقدر ما تلتهمه الجرادة في اليوم الواحد بضعف وزنها ويحط سرب أو (عمود) الجراد تتقدمه (الرحى) التي يقول البدو بأنها الملكة وحاشيتها ووزرائها على الأرض؛ ليغطي مساحات شاسعة من الأرض يزحف عليها ثم يحيلها إلى أرض جرداء في غضون ساعات قليلة، واشد منه ضرراً حوريات الجراد (الدبا) الذي تغرسه إناث الجراد بيضاً داخل الرمال وعلى مساحات شاسعة، ثم يخرج في وقت متقارب ويزحف على الأرض كأشد الآفات فتكاً يلتهم كل ما أمامه من أخضر ويابس لدرجة أنه في بعض الحالات يلتهم سعف وجريد النخيل كاملة ويتركها أعواداً، كما يقضم أبواب المنازل الخشبية بعدما يفرز مادة لزجة بلون وكثافة الدبس تحلل المواد الصلبة ويدخل البيوت ويلتهم كل ما يجده من طعام وملابس وفرش ويدخل في أنوف وآذان الأطفال النيام وكبار السن، ويدخل بينهم وبين ملابسهم يقضم أيضاً أخشاب الأسقف فتسقط البيوت على من فيها، ويواصل زحفه ليتساقط في آبار الشرب فتفسدها؛ لذا كان أهل القرى والمزارعين يحرصون على محاولة تغطية فوهات الآبار وثمائل الشرب كاملة بالأحجار كلما علموا باقترابه. الجراد غذاء ودواء ويحمل عشراً من صفات الجبابرة أسراب الجراد تتغذى على الشجر وتواصل رحلة المسير دون توقف ويتحدث البدو عن علاقة المطر والوقت الذي ينزل فيه بفقس البيض الذي تدفنه الجرادة في بطن الأرض، ثم تغادر وقدرته على مقاومة عوامل الصحراء سنوات طويلة، وضمن هذه الروايات ما ينسب لبعض الثقات من أهالي خصيبة بالاسياح وشهادتهم أن مكاناً يمكثون قربه دوماً تركت به إناث الجراد بيضها وانقطع عنه الجراد، وظل هذا البيض ثم تفجرت الأرض بعد تسعة عشر عاماً بالدبا عندما نزل المطر تتابعاً تلك السنة. مبيعات «خياش الجراد» تجد إقبالاً في الأسواق الشعبية طرق المكافحة لهذا ابتكر -خصوصاً القرويون والمزارعين- أساليب عديدة لمكافحة الجراد و(الدبا)، ومحاولة إبعاده عن مزارعهم وقراهم؛ إما بإشعال النيران، وعمل طوق ناري يتعاون عليه جميع سكان القرية ويستمرون في جلب الحطب، وإيقاد النار طول ليلهم ويلجأ آخرون إلى قرع الصفائح (التنك) الفارغة والقدور والضرب عليها طول الليل لمحاولة إبعاده، ومن طرق مكافحة صغار الجراد الزاحف (الدبا) حفر خنادق أرضية على شكل حزام تترك إلى أن تزحف إليها الحوريات وتسقط داخلها ليتم ردمها بالتراب، وأحياناً تشعل داخلها النيران فتقفز داخلها. وكانت المملكة قد بدأت جهود المكافحة منذ الخمسينيات الهجرية وفق إمكاناتها المتواضعة آنذاك، ويروي لنا أحد الذين شاركوا بعثات المكافحة سنة 1377ه، وهو «فهد محمد العمار» من مركز أبالورود بالاسياح، ويقول:»كنت عاملاً مع فريق المكافحة بأجر يومي سبع ريالات، وغطت مهمتنا روضة التنهات والدهنا ومكثنا في العيينة شهرا ونصف كنا نبحث عنه، وننثر طعما يتكون من قشور الفول السوداني، ومادة سامة تسمى (جمكسان) يقضي عليه خلال ساعتين، وأذكر أن البدو اعترضوا على هذا العمل خوفاً على مواشيهم، ولجؤوا للأمير طلال الذي كان يخيّم في التنهات طالبين نقل شكواهم للملك عبدالعزيز، لكن الأمير حاول إقناعهم بعدم ضرره على المواشي، ولتأكيد ذلك أعطاهم خروفاً قال لهم اطعموه من نفس المادة وأن مات ارجعوا لي ولم يرجعوا». مقطع فيديو يظهر عملية صيد الجراد في الصحراء سنين الدبا والجراد وتعد سنة 1307ه من أهم السنوات التي يؤرخ بها النجديون أحداثهم للقرن الهجري الماضي، وسميت عندهم (سنة الدبا) الذي قضى على المحاصيل الزراعية في نواح من نجد، وتساقط في الآبار بكميات كبيرة، وافسد مياهها، كذلك سنة 1325ه، ويسمى عام 1349ه عند أهل القصيم بسنة الجراد إذ غزت أسراب منه أجزاء من منطقتهم منتصف الربيع، ومن أبرز السنوات التي حفظها النجديون سنة 1364ه، وعُرفت بسنة (الدبا) عندما حطت أسراب هائلة من الجراد على أجزاء من منطقتهم، وجاءت على شكل أعمدة طول العمود الواحد حوالي 15 كم، وعرض 2 كم، وحجب الشمس وأحال نهارهم إلى ظلام فأعتقد البعض بداية الأمر أن الشمس قد كسفت فأحدث تدميراً هائلاً، وقبل أن تغادر كانت الإناث قد غرست بيضها في الأرض الذي خرج بعد عدة أشهر على شكل دبا زحف إلى المراعي والحقول، وقضى على كل شيء وفتك بالنخيل والحقول وقضم الأبواب وأسقف المنازل.