التوصيف الدقيق للحراك السياسي الدائر في الداخل المصري يتجاوز مسميات الديمقراطية ليستقر في خانة الاستبداد مرة أخرى.. ندرك جميعاً أن المشهد لا ينبئ عن ظواهر سياسية صحية بقدر ما يكشف عن طغيان جديد قادم تدفع به إلى الأمام تيارات الإسلام السياسي بأدائها المتشنج، وحساباتها المرتبكة التي تفتقر إلى الفهم السياسي لطبيعة دولة المركز بالإقليم، فضلا عن تصورات الهلاك المسبقة لعلم السياسة بأنه المكافئ لعلوم الخطابة المنبرية بالأضرحة والتجمعات.. وعلى الرغم من كافة التحفظات المقبولة على ترشح السيد عمر سليمان لانتخابات الرئاسة إلا ان معالجة الاسلاميين كشفت عن استبدال طغيان بآخر جديد، وأن الانقلاب على الديمقراطية هو العرف السائد لدى تلك التيارات إن لم يكن هو القاسم المشترك لكل من يتمسح بالدين في لعبة السياسة. من المقبول أن يتظاهر الملايين دعماً لمرشحهم أو أن يصدر البرلمان قانوناً بالعزل السياسي لرموز النظام السابق، لكن من غير المفهوم أن يتظاهر الملايين لإجهاض ترشح عمر سليمان أو أن يصدر قانون العزل من أجله شخصياً، ثم يتطور الأمر إلى حد التهديد بإعلان الجهاد والتحريض على القتل، والانقلاب على المعايير التي أقروها واتفقوا حولها في غزوة الدستور أو غزوة الصناديق كما سميت وقتها في الدوائر الاعلامية المصرية، وهى ممارسات تكشف عن نزعة نازية عميقة لدى تلك التيارات التي ما أن تصل إلى الحكم حتى تغلق الأبواب خلفها لتمنع غيرها من المشاركة، فهى تقبل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع ما دامت على يقين بأن نتائجه في صالحها لكنها تنقلب عليه متى استشعرت نتائج مغايرة.. وفجأة أصبحت الصناديق غير صادقة إذا لم تأت بالإخوان!! ترشح عمر سليمان ثم إقصاؤه كان اختبارا حقيقيا لتلك التيارات ولفكرة الثورة ذاتها فالتلميحات التي روجت لها تصنع من الرجل وغداً بامتياز، وتجعل منه دمية في يد الولاياتالمتحدة وأنه ترشح بضوء أخضر من واشنطن وهو استخفاف بالعقول ودرء لنفس الشبهات عن أنفسهم. والمؤكد أن المجلس العسكري لن يتمكن من ايقاف مهازل المتأسلمين إذا لم يجد مساندة شعبية، وهو ما يجعل الخيارات أمامه محدودة، بين استنساخ الثورة الرومانية من اعادة إنتاج النظام السياسي من الصفوف الثانية، او الاندفاع إلى الأمام وحل مجلسي الشعب والشورى وتنظيم يعمل انتخابات جديدة بعد انتخاب الرئيس، وهنا إعادة إنتاج ل تجربة جبهة الانقاذ فى التسعينيات عندما فازت فى انتخابات الجزائر وقررت التوحش فتدخل الجيش الجزائرى وكانت حربا أهلية بين الإسلاميين، والجيش راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، أو الطعن فى دستورية الأحزاب الدينية وحلها، غير أن هذا الخيار متأخر جدا وسوف يسبب إعادة تعاطف الشارع مع تلك الأحزاب بعد أن بدأوا فى فقدان هذا التعاطف.. ويبقى الخيار الأرجح وهو أن يستمر صراع القوى للوصول إلى الانتخابات الرئاسية مع تصاعد احتمالات انقلابه إلى صراع دموي وخاصة إذا تصاعد عنف الإسلاميين ضد العسكر. ويمكن تصور ثلاثة سيناريوهات سوف تحدد مستقبل العلاقة بين التيار الاسلامي، والمجلس العسكري، وذلك على النحو التالي: سيناريو الصدام: يتحقق هذا السيناريو في حال اصرار كلا الطرفين على موقفه دون تراجع أو تخفيض لسقف المطالب، أي مع إصرار الحزب والجماعة، وقد يتفاقم الوضع في هذا السيناريو في حال تأكيد التفسيرات التي ترى في ترشح الشاطر حلقة من حلقات الصراع بين المجلس العسكري والجماعة .. ونتائج هذا السيناريو هي نتائج كارثية لمستقبل مصر السياسي، خاصة إذا لجأ العسكري لحل البرلمان، أو قضت المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وفي المقابل عادت جماعة الاخوان المسلمين إلى الشارع مرة أخرى لتنظيم الاضرابات والتظاهرات والاعتصامات، مستفيدة هذه المرة من سخط عام لدى معظم القوى السياسية تجاه ادارة العسكري للمرحلة الانتقالية، ومن ثم تعود الحياة السياسية في مصر الى المربع رقم صفر، مع شيوع حالة كبيرة من الفوضى قد تغرق فيها البلاد لفترة زمنية طويلة. وهو السيناريو الذي يسعى الجميع إلى تجنب حدوثه لنتائجه الوخيمة على مستقبل مصر بشكل عام. سيناريو التوافق: يستبعد هذا السيناريو حدوث تصادم بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، لأسباب تتعلق بأن كل طرف لا يملك في جعبته السبل والأساليب التي تمكنه من الانتصار على الآخر، فالمجلس العسكري ليس هو مجلس قيادة ثورة يوليو عام 1952 الذي يحظى بدعم شعبي كبير يمكنه من حل الجماعة والبرلمان والانفراد بقيادة مصر، كما أن الجماعة لن تضمن فوز خيرت الشاطر في الانتخابات الرئاسية، إلا في حال الحصول على تأييد من جميع التيارات الإسلامية بما فيها التيارات الاكثر تطرفاً ، وهو إن حدث سيكون ثمنه السياسي باهظا، وربما يمثل أزمة سياسية كبرى للجماعة وليس مخرجا لها. ومن ثم يتوقع هذا السيناريو أن يتفادى الطرفان الصدام، حفاظا على مصالحهما وما تحقق لهما من مكاسب. المؤيدون لهذا السيناريو يتكهنون بأن خيرت الشاطر هو المرشح التوافقي بين المجلس العسكري وجماعة الاخوان، وأن ما يظهر للعامة من خلاف بين الطرفين، لا يتعدى كونه خلافا ظاهريا لالهاء الناس فقط، واستمرارا لهذا التوافق سوف تتغاضى الجماعة عن المطالبة بإقالة الجنزوري خاصة وأن الفترة المتبقية في عمر حكومته لا تتعدى الشهور الثلاثة. سيناريو الحرب الباردة: ويرجح هذا السيناريو بقاء العلاقة المتوترة بين الطرفين حاليا طوال المرحلة الانتقالية وحتى تضع أوزارها، بحيث يبقى كل طرف يمارس ضغوطه على الطرف الآخر وفي هذا السيناريو سوف يتمسك العسكري بما جاء في الاعلان الدستوري من أحقية المجلس العسكري وحده في إقالة الحكومة، في حين يتمسك البرلمان باختياره أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور، وينتظر الاثنان ما سوف تسفر عنه الانتخابات الرئاسية من نتائج، حيث لا يتوقع وفقا لهذا السيناريو توافق الطرفين على مرشح بعينه.