أبو وضّاح رجل أمضى شطرًا من عمره في البادية، وحينما جاء ليسكن المدينة اختار حيًا يكثر فيه الناس الذين استوطنوا المدينة مؤخرًا، وكان الحي يعرف باسم "حي البادية". ويغلب على هذا الحي أنّ البيوت فيه شعبية ومتداخلة والشوارع ضيقة، وبعض البيوت يُحيط بها بيت شعر وأحيانًا شبك فيه مجموعة صغيرة من الأغنام. يكاد يكون هذا الحي نموذجًا يجمع البداوة بالحضارة، لكي لا يشعر السكان الجدد بالغربة عن ماضيهم. وكان السكان حريصين على أن تكون بيوتهم مفتوحة الأبواب لكي لا يشعروا بالاختناق الذي لم يعتادوا عليه. ومن الطبيعي أن تجد الأبواب مشرعة في أي وقت من اليوم، وحتى أوقات متأخرة من الليل. سكن أبو وضاح في هذا الحي واشترى بيتًا يطل على الشارع العام لأنه يريد أن يبقى نظره ممتدًا لا تعوقه الحدود بمثل ما كان في الصحراء حيث يطلق لبصره العنان نحو الأفق ويشعر حينها بالحرية والطلاقة. ووضع أمام المنزل الشعبي بمسافة جلسة تعرف باسم "الدكّة"، وهي عبارة عن مكان مرتفع مفروش بالحصى الصغيرة الناعمة والنظيفة. وبجوار الدكة مكان توقد فيه النار لإعداد الشاي والقهوة. يجتمع الجيران والضيوف في هذه الدكة من بعد صلاة العصر حتى العشاء، وصار المكان تجمعًا للقادمين من مناطق بعيدة، يتناقلون الأخبار عن المطر والربيع والكمأ وأخبار الناس من حولهم، ويتسامرون في المساء يذكرون القصص والأشعار. كان أبو وضّاح مقصدًا لكثير من جماعته ممن يأتون لأخذ مشورته والاستنارة برأيه، فقد كان رجلاً هادىء الطباع، كثير الصمت، إذا تكلم أوجز، وكان لا يقاطع المتحدث إذا تحدث، ويكتفي دائمًا بالإصغاء لما عند الآخرين. جاءته إحدى جاراته ذات يوم تشتكي بأن زوجها سيزوج ابنتهما الصغيرة إلى رجل كبير في السن، والأب مضطر لهذا الزواج لسداد ديونه. ولما قابل أبو وضاح الأب سأله عن الموضوع، فأقرّ بذلك، ولمّا لامه أبو وضّاح، راح يشرح له ضعف الحال وأنه لم يتمكن من سداد الدين منذ سنوات. سأله أبو وضّاح لو أن شابًا صالحًا أراد الزواج من ابنتك ودفع المبلغ المطلوب، هل ستزوجه، قال نعم. وبعد أسبوع، جهّز أبو وضاح المبلغ وسلمه للرجل، وأخبره أن الزوج سيأتي قريبًا لخطبة البنت. سدّد الرجل ديونه وظل ينتظر الزوج، ومرت سنة ثم أخرى وثالثة ولم يصله أحد، فأصابه القلق وحينما استفسر، أخبره أبو وضّاح أن الزوج ينتظر البنت حتى تبلغ. وبعد أن كبرت الفتاة ونجحت من المرحلة الثانوية، قابلها أبو وضّاح وسألها إن كان في بالها شاب تريد الزواج منه، فخجلت ولم تجبه. بعد أيام جاءت الأم إليه وأخبرته أن ابنتها تتمنى لو كتب الله لها نصيبًا مع ابن خالتها. ففرح بذلك وعرف من ابن خالتها أنه راغب في الزواج، فقال: مهرك مدفوع من سنوات، وهذه البنت نخطبها لك من أبيها وبإذن الله سيوافق، ولكني أطلب منك أن تكون هذه البنت أمانة عندك وتعيش مكرمة محشومة عندك. وكان أبو وضاح سعيدًا للغاية وهما يتزوجان وكأنهما من أبنائه. بعد سنوات، تفاجأ أبو وضاح أن صاحب الرجل الذي باع عليه منزله، يطالبه بمال إضافي لأنه باع عليه المنزل فقط، وأبو وضّاح توسّع في الدكّة والجلسة وموقد النار، وهي أراض لم تدخل في البيعة، ويطالب بقيمتها. شرح له أبو وضّاح أنه لم يعلم بذلك منذ البداية، وأن كثيرًا من سكان الحي يتمددون أمامهم، ولم يكن لديه علم بملكية الأرض لأنه توقّع أنها أرض غير مملوكة. ذهبا إلى المحكمة لفضّ النزاع بينهما، وبعد جلسات أثبت الرجل للقاضي أن الأرض التي فيها المنزل ومايقابلها وبينهما شارع هي ملكه، وأن مكان الدكّة والجلسة وموقد النار تقع في أرضه. وأوضح أن سبب عدم مطالبته بذلك قبل سنوات، وأنه حضر عدة مناسبات عند أبو وضاح ورأى بعينه الوضع، هي أنه كان مشغولاً ولم يرغب في إحراج أبو وضّاح. لم يقتنع القاضي بهذه المبررات، ووجد أنه لم يقع ضرر على أحد، واكتفى بالحكم أن يزيل أبو وضاح الدكة والجلسة من مكانها. فاقترح أبو وضّاح أن يشتري هذه الأرض، فطلب الرجل مبلغ عشرة آلاف ريال، وكان هذا المبلغ كبيرًا في ذلك الزمن وهي لا تستحق نصف هذا المبلغ، وافق أبو وضّاح على هذا المبلغ ووعد بتسليم المبلغ له من الغد. وفي مساء الغد، جاء الرجل لاستلام العشرة آلاف، فأعطاه خمسة عشر ألفاً، فتساءل عن هذه الزيادة؛ فقال أبو وضّاح هذه قيمة استخدام الأرض طوال السنوات الماضية. فتعجّب الرجل من هذا التصرّف الذي جاء مخالفًا لتوقّعاته، فأخبره أبو وضّاح أنه راجع نفسه، ووجد أنه لن يكون مرتاحًا حتى يكون خصمه راضيًا، ولهذا دفع له المبلغ عن قناعة ورضا. وكان يقول في نفسه "حسّب الله هذا قيمة سيارة انقلبت" وكانت قيمة السيارات وقتها لا تتجاوز ثلاثة عشر ألف ريال. وظل هذا الرجل من الذين يزورون الدكّة بين فترة وأخرى وهو يحتفظ بالود والتقدير لأبو وضاح الذي صار مضرب المثل في الفضل والقناعة. وإذا كانت الحكمة القائلة "العاقل خصيم نفسه" تجري على ألسنتنا، فإن دلالتها العميقة لا تظهر إلا من خلال السلوك العادل الذي نقوم به حينما نجعل أنفسنا مكان الطرف الآخر قبل أن نحكم له أو عليه. والشخص المتوازن عقليًا وعاطفيًا هو الأقدر على أن يكون في موقع الإنصاف من الشخص المضطرب الذي يحبّ ذاته ويفرط في الانتقام إذا قدر عليه وينسى أن خصمه هو بشر مثله. وقد امتدح الله سبحانه من تخلّص من شحّ النفس وتحرر من الحرص على حطام الدنيا وصار أقرب إلى الخير والإحسان منه إلى الظلم والحسد.