كان عليّ ان أبذل جهدا اضافيا لكي أقرأ ديوان صانع الفرح الصادر حديثا عن دار ميريت للنشر ب 166 صفحة والغلاف لوحة رسمها وليدها عمر. فاطمة ناعوت الشاعرة والمهندسة والمترجمة والإعلامية المصرية التي أصدرت ما بين الشعر والترجمة والنقد 18 كتابا. وصلني منها عبر النت وأنا أضيق ذرعا بالقراءات الطويلة عبر شاشتي المضاءة والشاسعة بسبب عيني، ورغم هذا كان فضولي حارقا لكي تمر بعيني المريضتين قصائدها الانفجارية فأرى واسمع ما يمسك بجفني ويفتحهما وإلى الأخير ، وأنا اردد؛ ليحضر الشعر ، لتأتي القصيدة تنضح شهوتها في فتحة عينيّ فيتضاعف اتساعهما وتصيبني رضة من الفرح : "" هي أنا الخلاسية ترقص في دوائر منذ دهور فمتى يعود إليها الفرح كي تحرر الضفائر من شرائطها"" ناعوت لا تحفظ الدرس عن ظهر قلب ، هي تقلب الأوراق أمامنا ولا تتوقف فأشعر باهتزازها كالسلك الذي تدلى ما بين سور بيتها وبيوت الجيران واحدس انها لا تفضل الأشياء المدلاة ، لكنني أرى فؤادها يتدلى ما بين السماوات والأرضين : "" من بعدك كل الطائرات التي حملتني حواجز مقاعدها لا ترفع "" تدعني أرى خصلات شعرها فوق كتف المحبوب في : "" لا شيء يعلق في عقول طلاب الهندسة إلا قانون الحب الأول "" نرى الاوراد في حوض الروح ، وهو المحبوب يقلب الوقت والرأس حتى نستطيع قراءة قصائد من أجل ان لا يتناقص السعدْ . الفرح يتأخر كثيرا وأحيانا لا يحضر ، وهذا الكتاب تهديه الشاعرة إلى وليدها عمر المصاب بمرض التوحد . هذا المرض كلنا نصاب به بطريقة ما وتحت لافتة مختلفة ، جذوره وجدت بين كراسات الثانوية ولم نفقد أسرها في الجامعة ، أما سن النضوج وكأنني أرى الفرح يرتدي شورتا قصيرا ساخرا من أناقة الحزانى ، اصحاب الشجن المقيم : "" أنت اخطائي "" وأنا حلمك الأبدي "" "" أنا هنا وحدي "" وأنت أين ؟ "" فاطمة ناعوت في هذا الديوان الوحيد الذي أقرؤه لها كاملا ، تضبط عقلانية المهندسة وشهوات الشاعرة ،. تكتب ناعوت بحنان وانتباهات لأسرار الأنوثة وأهوال الطبيعة ، لوردة تريد يدا وشعرا وثوبا . تنزل للقعر العاري وتشاهد رواسب الدينا والنفوس . هي هكذا حتى في تراجمها لا تملك ترف اللامبالاة ، فهي تقابل ذاتها أولا فيحق لها ان ترى أقنعة الآخرين حين تنزل لميدان التحرير ليل نهار لكي تدون يوميات ثورة خلخلت الموازين رأسا على عقب . تعَمر القصائد وتبوب الانفعالات فيطلع صوتها إلى الأعلى مع الملايين : "" نعيد للطير أمانه وزقزقته تلك التي تعلم أن يسكتها كلما مررننا نحن البشر ..................... لنهتف مع الثوار "" بنحبك يا مصر "" استطيع عبر هذا الديوان التجوال في بيت ناعوت . أرى احواض الاشجار المتسلقة والمكتبة المكتظة ، ورائحة الثياب التي فاح عبقها بين الشراشف والجلد ؛ لحب يتلعثم بلكنة عذبة ما ان تمتد يدا للعناق فنخاف عليه من التفتت بثانية واحدة : "" على الأقل قبل ان تضمني "" جهز معجمك وتعال "" الغرام في هذا الديوان لا يحسم أمره ، انه يتأفف ، يتنهد شعرا ويقضي وقتا طويلا في ترتيب شوائبه التي ترسبت في قعر الروح . الحب هوية هذا الديوان ، صوته خفيض ويجلس بجوار من يحب ولو كان يبعد عنه عشرات الأميال . يخشى الاسترسال لكي لا يصل للتلويح بالوداعات ، لكنه ينجز عمله على الوجه المطلوب . جميع الشاعرات في الأرض ينفثون بخار الشغف ، نشاهدهن حارسات أمينات لشارة البدء به . في ديوان متقشف أو باذخ، في نغمة أسية أو حاشدة بسرور ما ان نرج قعره حتى يتطاير من حولنا وعلى ثيابنا فرح فاطمة . هو أيضا فرح الآخر ، المحبوب ، الابن ، البلد ، الثوار والأم الغائبة التي تدون لها ناعوت كما لو انها تكتب عن أمي فاغبطها في سري لأنها كتبت لها وعنها ما لم أجرؤ على ذلك لليوم : "" سآخذ دفتر أشعاري القديم الذي خبأت فيه عينيك البنيتين اللتين اربكتا صباي فغضبت أمي "" 4 في كل قصيدة تاريخ . وهذا الأمر مهم ومُلحْ أيضا . اغلب الذين أقرأ لهن/ لهم لا يحفلون بهذا الأمر . ناعوت ، ربما ، تدربت على ذلك من دراستها للرياضيات وكتب التاريخ . الطريف ان عموم الشاعرات وبالذات العربيات يتورعن عن وضع تاريخ ميلادهن ، ماعدا الشاعرة الجميلة زليخة أبو ريشة التي ذكرت سنها بصورة جهيرة وكانت غير عائبة بأية جلبة . سنْ الكاتبة / الكاتب هو تميمته وكنزه الذي يستطيع ان يعرضه على الجميع لكي تضاء مصابيح التجارب والخبرات ، الخسارات والصبوات . هنا في هذه المدن التي نعيش فيها ، الاعمار تقاس باليوم والشهر بالانضباط الصارم الذي قد يقود للمحاكم إذا شابه الغلط، فتبدو أعمارنا ممتدة إلى أعماقنا ، اعماق بلداننا ، صلبة من الباطن وتجيد المداعبة والفكاهة من الخارج . وفاطمة كلما أقرأ لها ترجمة أو قصيدة أو مقالة نارية أقول : آه ما أجمل نظامها في هندسة الشعر ، ما أجمل طاعتها للشعر . أظن بعض الشاعرات احدس انهن لا يعرفن الطاعة إلا للشعر وهن نادرات في العالم وفي عالمنا العربي ايضا . في هذا الديوان كتبت فاطمة اجمل الصفحات لكل أوقات الثورة ، للوليد المتوحد ولجيله الآتي لكي تكون اقدامه أكثر ثباتا على أرض مصر العظيمة : "" واسرق حفنة من طمى بلادي كي نعود إليها إذا ما هدنا التعب "" لكي تزرع لنا الجنة "" *** لعل اجمل قصيدة في هذا الديوان الفاتن ؛ "" مذياع أمي "" . هي رواية كل أم ، كل مغرمة ، كل ابنة يافعة تشغف لكي تكون عروسة وعاشقة ، تموت لكي تصبح أمّا مثل تلك الأم ، أمها ، وأمي ، أمنا جميعا . هذه قصيدة على فاطمة ان تقوم بتوزيعها في المدارس وتدرب وليدها عمر لكي يتلوها على أصحابه فشجنها وشعريتها تكهرب : "" الفتى سارق الفرح التقط كل نعمة تركتها أمي في الهواء قبل طيرانها إلى الله ثم مزج صوت أمي بحفيف الشجر ......... سورة "" غافر "" تحكي لها كيف يخرج الله من احشاء الصبايا أطفالا جددا سوف يجعلن الامهات الصغيرات جدات جميلات بعيون طيبة "" وشعر أبيض ""