يقال إن نسبة السياحة العربية إلى تركيا بعد المسلسلات قد ارتفعت بما يقارب 600% ، ولعل هذا يحيلنا إلى حقيقة أن الدراما باتت جزءاً رئيساً في تكوين مزاج الشعوب ، وبلورة تصوراتها الذهنية ،وترسيخ حقائقها ، ولعل الدراما التركية تعي بعمق هذا الدور وتلعب على نفس الوتر وتوظفه من خلال مسلسل (حريم السلطان) الذي تشير الإحصاءات بأنه يحظى بنسبة متابعة عالية في العالم العربي ولا أعتقد أننا بحاجة إلى هذه الإحصاءات فباستطاعتنا الجلوس في أي مجلس نسوي لنجد أن الحديث عن (السلطان وحريمه) قد تسرب إلى ذلك المجلس ، فعلى الرغم من الاحتقان النفسي الذي يرافق الربيع العربي، إلا أنه يبدو أن (السلطان وحريمه) باتوا يمثلون خميلة يومية يهرول باتجاهها المشاهد ليفكك عنه وعثاء يومه ويذهب مخطوفاً خمسمائة عام إلى الوراء داخل أمجاد التاريخ الإسلامي . حيث يقدم المسلسل مقاطع من سيرة الخليفة العثماني (سليمان القانوني) أحد أبرز سلاطين الدولة العثمانية ، والمسلسل يبدو واضحاً أنه موجه إلى العالم العربي فهو أولاً ينسجم مع االعادة العربية المفضلة في الفرار من الواقع والذهاب المستمر إلى الماضي والعيش بين أمجاده وبطولاته ، حيث يصور انتصارات الخليفة والجيش المسلم في دول البلقان وجزر البحر الأبيض( وعلى حين أن المسلم العربي عالق في نمطية ستريو تايب داخل الدراما العالمية حيث هو الماكر الهمجي أو الإرهابي ) ولكن أن يظهر من خلال المسلسل كبطل منتصر وفاتح يخضع ملوك أوروبا لسطوته ، فهذا بالتأكيد يرمم الذات العربية المهشمة من وقع الخيبات المتتالية على مدى عصور . أيضا المسلسل يقدم الخليفة في صورة البطل الذكر الحامي ، أو الفحل الأسطوري الذي يعج قصره بالمحظيات الجميلات ويزدان الحرملك بالجواري اللواتي يتهافتن بل ويتقاتلن للوصول إلى الحظوة ، وهذه الصورة هي الصورة الحلم التي تظل في لا وعي كل شرقي كنموذج للنعيم المطلق الذي يظل يتوق إليه ويحلم بالعيش بين الكواعب الفاتنات وأنهار العسل واللبن . طقوس الحرملك وقوانينه لم تغادر العالم العربي ولاسيما في دول الخليج ، حيث إن لم يكن هناك حرملك فهناك أمهاتنا أو جداتنا قد مررن به بشكل أو بآخر ، لذا هذا التماهي مع الشخصيات النسوية في المسلسل وصراعها وأحزانها وسط حلقات الدسائس والمؤامرات والدهاء النسوي يعتبر من أبرز عوامل الجذب التي سمرت كمّاً هائلاً من النساء أمام الشاشة لمتابعة المسلسل ، لاسيما أنه يوظف في أحداثه وتفاصيله الخلطة الدرامية التي لا تخيب أبدا حيث (الحب والحرب والصراع على السلطة ) في حبكة درامية متماسكة وحرفية استطاعت أن تشد انتباه المتابع إلى حد كبير ، بالإضافة إلى الاحتفاء بالأبعاد الجمالية داخل الكادر سواء جمال الوجوه أو الأردية أو الأمكنة وجميع ذلك يمنح العمل زخماً أسطورياً يستجيب للمخيال الجمعي الذي يظل في قاع رأس كل شرقي حول ماض تليد. لربما الدراما التركية استطاعت أن تستقطب من خلال هذا المسلسل متابعين ومعجبين بشكل يفوق مئات الحملات الترويجية السياحية ، وفي الأسبوع الماضي عندما زرت مدينة أسطنبول مررت بقصر (توبكابي) الذي تدور فيه أحداث المسلسل ، رغم زيارتي له في السابق عدة مرات إلا أنني ابتهجت جدا حينما آشار لي المرشد السياحي إلى الشرفة التي كان يطل منها السلطان (سليمان القانوني) على مدينته ...اسطنبول . الدراما باتت تشكل رافداً رئيساً من روافد الوعي ، وتلعب دوراً بارزاً في تكوين الصور الذهنية والتصورات ، وعند مقارنة هذا بواقع الدراما المحلية لدينا ، والذي لا يوجد حتى هناك جهة رسمية ترعاها أو تقدمها أو تدعمها ...سنشعر حتما بالبؤس والفقر.