صناعة الطيران تطورت بسرعة الصوت خلال فترة قصيرة.. وتحديداً منذ اخترع الأخوان رايت أول طائرة بدائية عام 1903 وحتى أطلق سلاح الجو الأمريكي أول طائرة اخترقت حاجز الصوت عام 1947!! ... الغريب فعلاً هو ماحصل بعد هذا التاريخ حيث تراجع الطيران المدني (بدل أن يتقدم) عن فكرة نقل المسافرين بسرعة تفوق الصوت.. وأقول "تراجع" لأن الكونكورد حاولت بإخلاص ولكنها مثل شقيقتها الروسية توبوليف144 خرجت من الخدمة نهائيا بسبب ضعف العوائد وارتفاع تكاليف الصيانة.. فرغم أن كلا الطائرتين تجاوزتا حاجز الصوت بمرتين (2400 كلم بالساعة) إلا أن الطائرة الروسية لم ينتج منها أصلا غير طائرتين، في حين اقتصر استعمال الكونكورد على الخطوط الفرنسية والبريطانية وعلى خط نيويورك فقط!! وفي عام 2007 تراجع الطيران المدني نهائيا حين قررت بريطانيا وفرنسا إلغاء مشروع الكونكورد بشكل كامل (في حين استمرت الطائرات العسكرية بتحقيق سرعات متزايدة وصلت لعشرة أضعاف سرعة الصوت).. وكان قرار الإلغاء متوقعاً قبل هذا التاريخ بفترة طويلة بسبب ارتفاع قيمة التذاكر وكلفة الصيانة الأمر الذي جعل الكونكورد غير عملية في مجال الخدمة المدنية.. أضف لهذا أن اختراق أي جسم لسرعة الصوت (الذي يساوي تقريباً 1200 كم في الساعة) جعل دول كثيرة ترفض استقبالها كون موجات الصوت تتسبب في اهتزاز المباني وتكسير الزجاج.. وحين بلغت سن الشيخوخة وتحطمت واحدة منها بالفعل بعد اقلاعها من باريس أطلقت عليها رصاصة الرحمة وحول ما تبقى منها الى متاحف الطيران حول العالم !! ... وفي الحقيقة، مشروع الكونكورد بأكمله كان مجرد رد فعل متسرع على السيطرة الامريكية في مجال الطيران المدني، فخلال الستينات بدا واضحاً أن هذه الصناعة أصبحت أمريكية يصعب منافستها. ففي ذلك الوقت كانت طائرات البوينج والماكدونالد عصب الأساس لمعظم خطوط الطيران في العالم. ولكسر هذا الاحتكار فكر البريطانيون باقتحام مجال جديد تماما هو "النقل المدني الأسرع من الصوت". واقترحوا حينها على الفرنسيين الدخول معهم كشريك فيما اتضح لاحقاً أنه أكثر مشاريع الطيران خسارة وخيبة أمل.. فطائرة الكونكورد تستهلك كميات كبيرة من الوقود، وتحمل عدداً أقل من الركاب، وتحدث ضوضاء يصعب تحملها. ورغم أنها تقطع المسافة الى نيويورك في 3 ساعات فقط (مقارنة ب 7 ساعات للبوينج والإيرباص) إلا أن تذكرة الذهاب فقط تكلف الراكب "4167" دولاراً ومع هذا لا تغطي ثمن الوقود الذي تستهلكه.. وهكذا بعد سنوات طويلة من الأبحاث والخسائر تمخض مشروع الكونكورد عن ثماني طائرات فقط تستخدمها خطوط الطيران الفرنسية والبريطانية من والى نيويورك فقط!! واليوم، يقول خبراء الطيران إنه كي تنجح طائرة مدنية تفوق سرعة الصوت يجب أن تحمل ضعف الركاب الذين كانت تحملهم الكونكورد، وتستخدم وقودا أرخص من البوينج، وتقطع مسافات أطول من الأيرباص، وتملك تقنية خاصة بتخفيف الضجيج!! .. ولصعوبة الجمع بين هذه المزايا تخلى الأوروبيون نهائيا عن فكرة السرعة الخارقة (مع حمل عدد أقل من الركاب) لصالح حمل عدد أكبر من الركاب بسرعة تقل عن الصوت.. وبفضل هذه الرؤية المختلفة ظهرت الإيرباص380 (أكبر طائرة ركاب في العالم) التي تستوعب أكثر من 600 راكب بسرعة تناسب الرحلات المدنية قدرها 900 كلم بالساعة !!