ساعة الضحوية.. فترة من النهار تحكي لنا قصص ماضٍ سعيد.. ساعة الفراغ من هموم الحياة وأعباء المعيشة.. معها حكايات وذكريات يتمنى الأكاديميون لو أدركتها أقلام الأصمعي ومحبرة الجاحظ، كما يتمنى الأدباء لو سطر لها بديع الزمان من مقاماته ولسان الدين الخطيب من موشحاته. كانت الجدات اللاتي "يجهمن" بزوغ النور ليؤدين فريضة الفجر يسارعن -بعد أداء المكتوبة- إلى الوجار أو "الكوله" لإعداد الدلة البغدادية والشاي السيلاني بالإبريق المعدني المشهور بأواسط الجزيرة العربية بمسمى "دليهم"، وما هي إلاّ ساعة من فجر وتجد العائلة تكامل أفرادها تجتمع على مائدة من الحنيني وقرص "المجمار" وفناجين "المر" من القهوة الخولانية، وأقداح الشاي أو حليب الزنجبيل في أيام الشتاء، كانت الأم تعد زوجها وأبناءها ليوم طويل من العمل والكد وما هي إلاّ لحظات وينخرط الأب والأبناء في أعمالهم لتبدأ الأم مع بنياتها بإعداد وجبة الغداء تجد معها الأم فسحتها في ساعة من النهار درجت تسميتها بين الأهالي في ذاك الزمان ب"ساعة الضحوية". كانت ساعة الضحوية أو "فلة الحَجَاج" كما يسميها البعض فرصة لتفريغ الأشجان وجلاء الأحزان، بل تكاد تكون الفرصة الوحيدة لنساء الزمان الأول للوقوف على شؤون البلاد والعباد ولا تسأل حينها عن القصص والأشعار والحكايات والأسرار وعما يدور في مجلس الأهالي والأعيان وما يتناقله الرجال والنساء والولدان، وتشنّف من خطب فلانة ومن تزوج فلان وكيف عاد هذا من السفر ومتى يصل مرسول الشيوخ؟. كانت "هيلة" و"مزنة" و"موضي" يجتمعن على الشاي والكراث وشيئاً من القريض و"الحمص المجفف"، والهبود "فصفص تباع الشمس"، والإقط، وإن عزّ عليهن "الحلو" من السكر أو البنجر فإنهن يلجأن لما يسمى آنذاك "الطرخ"، وهو مضغ التمرة وإبقائها بالفم ليشرب معها الشاي المر فيستعاض بحلاوة التمر عن حلاوة السكر، وما زال الآباء وحتى الأجداد يتذكرون جيداً كيف تعايشوا مع بدايات الحرب العالمية الثانية أوائل ومنتصف الستينيات الهجرية وكيف كانوا يستعيضون التمر عن السكر الذي عزّ وجوده، لاسيما في القرى والمدن الصغيرة أو تلك التي تبتعد عن الموانئ والتجارة البحرية، وحينها كان الرجال "يطرخون" في العصرية، كما لو كانوا يشربون "الموكا" ويأكلون "الكوكيز". استمرار مختلف ومع تقدم الزمان استمرت ساعة الضحوية بين نساء الزمن الجميل تتناقل من الجدات إلى الأمهات؛ إذ ظلت هذه الفترة من النهار إلى ما قبل عقود من الزمان حاضرة حتى في المدن الكبيرة، وكانت "الجارات" يحرصن على الالتزام بها، بل وانتظارها من بين ساعات اليوم الطويلة آنذاك. لم يكن ثمة تكاليف أو استعدادات مسبّقة، كما لم يكن ثمة اتصالات ودعوات فالكلفة مرفوعة والحال واحدة والجار في منزل جاره، كما هو في منزله، وكانت الجارات اللاتي انتقلن إلى المدن يحكين عن عناء السفر ووطأة البعد عن الأهل والأقارب وظروف الزوج مع العمل والتنقل، كما يحكين عن البيت وتعب الأبناء والمدارس وأحوال الجيران، بل عن العقار والإيجار وغلاء الأسعار وأحوال الشيوخ وما ينقله المذياع وما سُمع من فلان وما نقل عن فلانة، بل كن يتحدثن عن بدايات "الحرب الباردة" والتسابق الروسي الأمريكي نحو الفضاء الخارجي والمد القومي العروبي، وكل ما تنقله الإذاعات وما تكتبه الصحافة بطرحٍ بريء و"سواليف" أكثر عفوية لا يقطعها إلاّ عبارة "اروح ازهب الغداء لابو فلان"؛ ليمضي سائر اليوم في الأعمال المنزلية بين الزوج والأولاد إلى حين موعدٍ في بيت "موضي" تحضر معه الأشعار والخواطر والمُلح والنوادر. ساعة المغربية ومع مرور الأيام وتقدم قطار الزمان تباعد الجيران وقلّت زيارات الضحوية لاسيما في المدن الكبيرة، وأصبحت المرأة بين عبء الوظيفة أو عبء الوصول إلى المدرسة أو حتى النوم إلى ما قبل الظهيرة؛ لتتبدل ساعة الضحوية عند البعض بزيارات متقطعة ساعة "المغربية" تغلب عليها الرسمية والمظاهر الشكلية تبذل معها "غادة" و"أريج" وقتاً ليس بالقصير لإعداد ما استجد "في السوق" من الفطائر والحلويات والموالح والسكريات؛ ليدور الحديث في معظم جوانبه -كما هو شأن مجالس الرجال مع الشعر والرياضة- عن شؤون المعلمات والقبول في الجامعات وعن الصيف والسفريات، ولا بأس بالسؤال عن من أعد هذه الفطائر؟ ومن يبيع هذا النوع من الحلا؟. ليعيد لنا الزمان "سيناريو" ساعة الضحوية بمضمون يعايش الحاضر بمستجداته وصخبه وشكلياته التي طالما ردد فيها أبناء هذا الزمان قول الشاعر: كل من لاقيت يشكو دهره ليس شعري هذه الدنيا لمن فتاتان يلتقيان في أحد المولات لقضاء «ساعة المغربية»