كلما اشتقت لرائحة جازان نزلت لشارع فيصل شارع ذكريات طفولتي يأخذني الحنين إلى هناك لبيت جدي عبدالقادر علاقي وجدي عثمان وخالاتي وطفولتي التي تكتنزها زوايا بيت جدي حتى الآن تحفظ ضحكاتي وبكائي حيث تلك الحوائط التي علقت فوق صدرها قلائد من شهادات نجاحي في المدرسة الابتدائية وكانت تصطف مع نهاية كل فصل دراسي حتى أصبحت كالجنيهات المرصوصة في ( الشماس) بجوار بعضها البعض أمشي في أزقة ذلك الشارع الذي سكنه الكثير من سكان المنطقة من الأدباء والتجار محمد بن أحمد عقيلي عبدالرحمن رفاعي آل عبدالحق وغيرهم ممن بقوا ومن رحلوا عن الدنيا وبقيت منازلهم شاهدة عليهم. دكان عم أحمد مسلم مازال يقف رغم ملامح الخريف التي بدأت تزحف في جدرانه يفوح بروائح اللبان المستكة واللبان الشحري والعطور والكحل والزيوت العطرية كنت أذهب مع أمي وأنا طفلة إليه لتشتري منه مايلزمها في زينتها أو لزينة المنزل تنفست ملء رئتي عبق الفل والباعة يتجولون به لعلهم يظفرون بسيدة تستوقفهم لتشتري الفل العريشي أو العباسي أو الزيدية منهم مررت بدكاكين العطارة والخياطة وبيع البهارات ووقفت بجوار كرويت عم إسماعيل حسن ملتقى الأصدقاء حيث يجتمعون بعد العصر حول براد الشاي يجلسون على الكرويت في زاوية الشارع يطلون على مدخل ميناء جازان يتنهدون ويحكون عن زمان وأيام زمان دخلت بيت جدي لم أجد جدتي كانت آخر الراحلين عن هذا البيت ومازال كل ما فيه في مكانه، جدتي التي كان يناديها جدي ليلى اللؤلؤة لفرط جمالها وبياض لون بشرتها كانت الحناء ينافس جدي في حبه لها ودهن العود والفل كانت الحناء رسائل عشق منقوشة في كفيها وقدميها كانت تقسم شعرها لنصفين ويفترش الطيب جديلتيها المرتميتين فوق ظهرها تتدليان بدلال تهتزان يمنة ويسرة والفل قد أقسم على العناق فعانقهما حتى منتصف خصرها كان (المصر) شاهدا على غواية شعرها للفل والعطر تثبته في مقدمة رأسها وتخرج جديلتيها منه للريح لتستمرا في غواية القمر أيضا. كانت (الشرعة) تسكن جسد الجدران تحتل موضع القلب من الجسد يتربع في كل واحدة منها (مجمار) بخور وعلب (الظفر) وقوارير (المجموع) في غرفة قد تمددت (القعد) بطول حوائطها كل قعادة تفوح برائحة القطران الأسود من قوائمها والطلاء الأحمر الجديد الذي اعتادت طلاءها بهما. وجدرانها برخام أبيض وكأنك في رحم غيمة جدتي اللؤلؤة كانت حكاية عشق كل شيء تعشق الأشياء وتعشقها الأشياء كانت تصحو مع الفجر توقظ العصافير والزهر وتصافح أول وفود الشمس وتنطلق إلى مطبخها الصغير تخرج (مركب الفحم) وتضع (الجبنة) فوقه بعد أن تملأ فمها بالبن (الحوار) والهيل و(توهف) عليها (بمصرفة) تزيد اشتعال النار حتى تستوي القهوة في الجبنة فتوقظنا رائحة بنها لنرتشف معها قهوة الصباح ونأكل معها (مطبق وزلابية) يحضرها جدي من عم عياش بياع المطبق كل فجر بعدما ننتهي من (الصفرة) يذهب كل إلى عمله وجدتي تذهب مع الفراشات والقمح والشمس والعطر نحو (الميفا) تخرج عجينة الخمير تضعها خارج الثلاجة وتشعل الميفا بالحطب وتقطع اللحم والبامية والبطاطس والطماطم وتخرج قدرها (المغش) الأسود لتضع هذه المكونات به وبضع قطرات ماء وتلقمه للميفا وتزين جدرانه (بجمارتين) خمير وسمكة عربي (مالحة) كنا ننتظر الغداء بفارغ الشوق نصطف حول مائدتها كحبات الفل في عقد تتوسطه هي اللؤلؤة جدتي كانت صورة لجداتنا الطيبات في جازان ببساطتهن وحبهن لمن حولهن وحب من حولهن لهن سأكمل الأسبوع القادم حكاية جدتي الجازانية الجميلة مع زنبيل الفل وشجر الكاذي... (الشماس) قطع ذهبية دائرية متراصة توضع في مقدمة رأس العروس. (المصر) شال تلف به المراة شعرها. (الشرعة) تجويف داخل الجدران لوضع التحف. (المجمار) وعاء لوضع النار فيه لوضع البخور فوقه. (القعد) الكراسي الخشبية المصنوعة من الحبال (سعف النخل). (الجبنة) إناء من الفخار يشبه الدلة لعمل القهوة. (الحوار) الزنجبيل. (توهف) توقد النار. (المصرفة) إحدى المصنوعات اليدوية من سعف النخل تستخدم لإيقاد النار. (الصفرة) وجبة الإفطار. (الميفا) التنور. (المغش) قدر أسود من تراث جازان.