مقالتي الأسبوع الماضي "تخيل أن" حفلت بردود التبس على كتابها موقفي؛ إذ يبدو أنهم فهموا من مقالتين سابقتين لها أنني ضد النقد، وأنني أبرر الفساد في أي مكان كان، وذلك غير صحيح، وليس لعاقل أن يقول بذلك ولن تسمح لي صحيفة «الرياض» أيضا بأي من ذلك، ولكن مرد ذلك التشويش أن البعض يقرأ وفي ذهنه حكم مسبق على الكاتب، والآخر يكتفي بفقرة أو اثنتين، وثالث يعمل وفق أجندته الخاصة ويفسر المقالة وفقا لما يخدم هواه. أنا مع النقد، بل ومارسته، وأمارسه، وسوف أستمر في النقد؛ ولكنني أحاول قدر المستطاع أن أكون موضوعيا في نقدي، بحيث أتجنب التعميم واعتمد على الأرقام والحقائق ما استطعت إلى ذلك سبيلا. إن أسهل سبيل إلى الشعبية هو النقد السوداوي الذي يغلق منافذ الأمل ويصوّر ألا أحد يعمل على نحو صحيح في هذا الوطن. وفي الوقت الذي ينظر إلينا غيرنا بالكثير من الإعجاب بأن بلدنا تحقق الكثير وتستثمر مواردها بكفاءة كبيرة رغم الظروف المحيطة ووجود أخطاء لها مبرراتها، وأخرى لا مبرر لها، يحلو لمن يبحثون عن الإثارة التركيز على الجانب السلبي وحده، وهم في ذلك على حق إن كان الهدف تحقيق مزيد من الإثارة والشهرة، ولكن الموضوعية والحرفية الإعلامية تفرض على الكاتب مسؤولية التثبت مما يكتب ومن حقه أن يلتقط الأخطاء بل ويتصيدها ويسلط عليها الضوء لأن هذه هي مهمته، ولكن ليس من الحرفية ولا الأمانة ولا المواطنة في شيء تعميم الخطأ والقصور. يمكنه فعلا أن يحشد كل مؤثراته لتضخيم الخطأ الذي يتأكد منه دون تعميمه وشخصنة الطرح الإعلامي وتسخير مساحته للنيل من سمعة الأفراد والمؤسسات لأن ذلك فساد من نوع آخر استغل فيه الكاتب أو الصحفي سلطته ومساحة الحرية في تحقيق مصلحة شخصية تتمثل في ابتزاز جهة حكومية أو خاصة أو تحقيق شهرة شخصية على حساب الآخرين، وذلك فساد مؤكد. أنا هنا لا أصادر حق الآخرين في الاختلاف معي، ولست أنا من يضع معايير الصواب والخطأ، وإنما أجد أن من واجبي وقد أعطيت هذه المساحة الغالية من الحرية في صحيفة مرموقة أن أعبر عن وجهة نظري التي هي ضد التعميم السوداوي، وضد التسبب في تثبيط وإحباط المجتمع أيا كان الباعث لتلك الممارسة. ومثلما أتقبل رأي الآخرين ولا أوافق عليه في هذا الجانب تحديدا، فإنني أتمنى قبول وجهة نظري سواء بالموافقة عليها أو الاختلاف معها دون شخصنة، وتلك هي الممارسة الصحية في أي مجتمع راق؛ فالتعبير عن الرأي والرأي الآخر في النور وعلى الملأ أشرف وأفضل بكثير من الكتابة الخفية على الجدران الخلفية وفي دورات المياه، وتحت حماية الأسماء المستعارة. لو نظر اليائسون والمثبطون إلى النصف المليء من الفنجان للاحظوا أن هذه المساحة من الحرية في الاختلاف والنقد والتفاعل الذي يصل في أحيان كثيرة إلى التطرف في التعبير عن الرأي هي نعمة تستوجب الشكر حتى تدوم. وأعتقد جازما بأن ما تحقق لبلادنا خلال السنوات القليلة الماضية يدعو إلى المزيد من العمل والاطمئنان إلى أن بلادنا بخير كثير. فإشاعة التفاؤل وإعمال النقد البناء هو الذي يخلق أجواء حافزة على الإنتاج والإبداع. هذا الوطن هو أثمن ما لدينا بعد ديننا، ويستحق منا أن نسخّر كل ما يصدر عنا من نقد أو ثناء لخدمة مصالحه العليا، آخذين في الاعتبار مسؤولية الكلمة وقوة تأثيرها. لا أحد يزايد على أحد في مواطنته، ولكن المواطنة لا تستقيم مع تغليب الإثارة وكسب الجمهور والشعبية على حساب الوطن والإساءة لمنجزاته.