من توابع انعقاد الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين وزوابعه، سوء الفهم الذي نشره ذلك المحرر في الناس، عن مكانة الشعراء الشعبيين في الملتقى.. وإجابتي ضمن أجوبة عن قضايا أخرى، بأن مكان الشعراء الشعبيين هو مهرجان «الجنادرية» حيث لا نشاط منبرياً لا للشعر الشعبي ولا للشعر الفصيح، في ملتقى اختصت أوراق محاوره الإجرائية، بمعالجة إعادة هيكلة القطاع الثقافي في وزارة الثقافة والإعلام. غير أن المحرر أرادها فتنة يشتعل أوارها بيني وبين قبيلة شعراء النبط، الذين أحتفي بشعرهم إيما احتفاء، حين يكون أصيلاً معبراً، كما قرأناه في حكميات الخلاوي وغربة العوني، ومغامرات ابن غشام، وغزليات الهزاني ابن لعبون ووصف القاضي.. وغيرهم من شعراء النبط ممن أوقدوا نيران مواهبهم ولواعج أشواقهم في أشجار الشعر العربي الفصيح، حتى عُدَّ الشعر النبطي امتداداً تراكمياً للشعر الجاهلي.. هذا الذي يذهب الباحث الرصين د. سعد الصويان، بأنه في الأصل لم يكن إلا شعراً شعبياً، انطلق على السليقة، ثم «تقعَّد» في نظام فصاحة ثبتها القرآن الكريم، باختيار لغة قريش أو لهجتها، تعبيراً عن هذه الفصاحة التي حفظت مواريث العرب الأدبية من اللحن.. أما الشعر الشعبي وشعراؤه الذين زعم من زعم إنني قد صوبت سهامي نحوهما! حين وضعت مكانهما في مهرجان الجنادرية، ضاناً عليهما بموقع يستحقانه في ملتقى المثقفين!! فلقد فات على هذا أنني وضعت هذا الشعر وشعراءه مكاناً علياً، منذ توجه المهرجان الوطني للتراث والثقافة، نحو عرض روائع قصائده من على منصة الخطابة - تارة - أو في مناشط الجنادرية الأخرى - تارة أخرى - من الأوبريت إلى القلطة وعروض الفرق الشعبية، حافظاً - هذا المهرجان - مخزوننا من التراث الثقافي غير المادي، على ألسنة الشعراء والمتذوقين.. أو في الحرف اليدوية الشعبية عبر القرية التراثية، التي يفد إليها مواطنو المملكة - كل عام - زرافات ووحداناً، من كل حدب وصوب.. وقد حدد مهرجان الجنادرية من ذلك هدفاً إستراتيجياً، يدور حول تعزيز الهوية الوطنية، بعد هيمنة خطاب العولمة وآلياتها المهددة لخصوصيات الشعوب، وتمايز حضاراتها، بما يجعل الحاجة الروحية ماسة نحو الاهتمام بالتراث الثقافي غير المادي - هذا عنوان اتفاقية دولية لليونسكو وقعت عليها المملكة - هو ما دعا أمانة ملتقى المثقفين أن تدرجه محوراً مهماً، شارك فيه ثلاثة من أميز باحثينا في الأدب الشعبي - شيوخاً وكهولاً وشباباً - بورقات عمل أدهشت الحاضرين بنتائجها، أو قل أذهلتهم كما عبر الأستاذ محمد العرفج في تغطيته الجزلة الذكية لهذا المحور في صفحة «خزامى الصحارى» ب «الرياض».. وكان الشعر الشعبي متسيداً هذا المحور، المعنون ب «التراث الموسيقي والفنون الشعبية»، بقصد إدراج الأفكار الاجرائية من حوله في الإستراتيجية الثقافية المزمع صياغتها، بهدف حماية أشكال التعبير الشعبي، حيث تقف المملكة على ميراث ضخم من هذا التراث التاريخي، بدأ عديد من ألوانه، على صعيد الحرف اليدوية، والتعبيرات الفنية والشعرية الشعبية، يُخشى اندثاره، بسبب طغيان الثقافات الأجنبية، وتأثير الأنماط الاستهلاكية عليها، وعلى فنون أخرى كالعمارة والتطريز والنسيج، والأشكال الفلكلورية، من أساطير وقصص وأشعار وايقاعات ورقصات، بدأت تتوارى عن الذاكرة الشعبية لأبناء البر والبحر والجبل في بلادنا الواسعة الأرجاء.. بل إن هناك مادة ضخمة من المأثورات الشعبية لم توثق، ومنها كثير ما يزال مكتوماً في الصدور، أو مدفوناً تحت الرمال بمختلف لهجاتنا وثقافتنا وفنونا الشعبية. لذلك جاءت التوصية الثانية عشرة من توصيات ملتقى المثقفين الثاني، مخصوصة بتوثيق المأثورات الشعبية للمحافظة على خصائص التراث الثقافي المتنوع للمملكة وحمايته من الاندثار. وبالتأكيد فإن لمهرجان الجنادرية دوراً مشهوداً في هذا المجال، سوف تفيد منه وزارة الثقافة والإعلام وأية جهة حكومية أوأهلية لها علاقة بحماية التراث الشعبي وإعادة توظيفه.. كما لا يمكن إغفال برامج مهرجان الجنادرية وأنشطته البحثية، وعروضه الشعبية التي عملت على إحياء تراثنا الثقافي، بل إنه في بداية تحوله إلى مهرجان وطني للتراث والثقافة، قام في ندواته الكبرى المشهودة بأبرز الباحثين والنقاد والمبدعين بعملية ربط جدلي، بين فنون الشعر والرواية والقصة والمسرح وثقافة الطفل المكتوبة باللغة العربية، وبين الصور والأساطير والتعبيرات في الأدب الشعبي.. وفوق هذا فقد زاوج مهرجان «الجنادرية» بين مهمتين صعبتين وازنت بين اهتمامها بتحريك التراث الشعبي، وبين معالجة القضايا الثقافية الكبرى - محلياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً - على امتداد أكثر من ربع قرن مضى، كنت شاهداً ومشاركاً ومنشطاً لبرامج هذا المهرجان التاريخي، الذي استظل بخيمة فارس العرب المغوار عبدالله بن عبدالعزيز.. هذا الذي سوف يذكره التاريخ الوطني والعربي والإسلامي والإنساني، بمبادراته التي تعددت بين الحوار الوطني، والمصالحة العربية، وعمارة الحرمين الشريفين، والحوار بين أتباع الديانات والثقافات. بعد هذا.. آمل ممن أساء الفهم فيما رسم عني وخيل باجتزاء تصريح صحفي عابر من سياقه، وظف ليخدم غرضاً في نفس زيد أو عمرو متربصاً، أو متصيداً، أو متحاملاً.. على هؤلاء أن لا يزايدوا عليَّ في معرفتي بمكانة الجنادرية، فما أنا إلا واحد ممن شرفوا منذ خمسة وعشرين عاماً، بخدمة أهدافه العليا، قيمة للثقافة الرفيعة، وجامعاً لشمل الأمة.. وأعتز هنا بما عبر عنه - ذات لقاء تلفازي - صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز وزير الدولة رئيس الحرس الوطني، عن شخصي المتواضع بوصفي واحداً من صناع الأفكار ومقترحي البرامج في هذا المهرجان، الذي تفوق - بحياديته - على مهرجانات شهيرة سبقته، في مربد العراق، وجرش الأردن، وقد استقبل المئات من أبرز السياسيين والمفكرين والأدباء - عرباً وغير عرب - منهم من تغيرت تصوراتهم النمطية المقلوبة عن ديننا أو مجتمعنا أو بلادنا.. فها هو المفكر الأمريكي الأشهر صموئيل هنتغتون أستاذ علم الحكومات بجامعة هارفارد، يعدّل من نظريته العدوانية ضد الإسلام في أطروحته المسيسة عن «صدام الحضارات» إثر حوار حيوي جرى بينه وبين معلمنا الشيخ الحكيم عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري في منزله يرحمه الله، ومن قبله حاضر المفكر الفرنسي من أصل جزائري د. محمد أركون ساعة كاملة في جامعة السربون عن مشاهداته اللافتة في المملكة، ومن بعده رأينا المفكر العربي الضخم د. محمد عابد الجابري يتحول إلى دراسة القرآن الكريم وتفسيره بعد حوار جرى في الرياض، وقد انتهى من أطروحته الشاملة في نقد العقل العربي.. كل ذلك بما استثاره مهرجان الجنادرية في رؤوس هؤلاء وغيرهم من أسئلة، وما فعله من تحولات.. ساسة ومفكرين وأدباء.. شخصيات سعودية وعربية وعالمية، طالما أثرت بأطاريحها أجواء مهرجان الجنادرية، بأفكارها وسجالاتها، التي أحسب أنني ما غبت عنها يوماً من أيام عمره المديد. فهل من شك - بعد هذا كله - يلحقني بمجرد تصريح صحفي عابر، أجتزئه المحرر من سياقه بهدف التسويق لمطبوعته الوليدة؟! هذا ما أوحى به مقال الأستاذ قاسم الرويس في صفحة «خزامى الصحارى» حول هذه الضجة المفتعلة، غير أن قاسماً بمقاله استثار فيَّ شهوة الكتابة، مختاراً الرد من على شرفة منزلي القديم فوق الشجرة التي تعلقنا بأغصانها المثقلة إلى هذه المعتركات.