تواصلت ردود الأفعال حول ما ذكره الأمين العام لملتقى المثقفين السعوديين محمد رضا نصرالله الذي اختتم أعماله يوم الخميس الماضي، والذي قال فيه “إن الشاعر الشعبي ليس غائباً، ولكنه موجود تحت عنوان المأثورات الشعبية التي تضم “الشعبي”، و”التطريز والنسيج”، وأن مكان الشعر الشعبي في الجنادرية”. عبده خال الشرق نقلت هذا التصريح إلى الروائي السعودي عبده خال، الذي قال أعتقد أن كثرة الشعراء الشعبيين، أو من اقتحم هذا المجال بدون حرفية وإبداع حقيقي ساهمت، أو أضرت به، لسبب أن في الفن عادة الجيدين هم ندرة، لكن الكثرة يقل وهج بعض الموهوبين، ويجعل الحكم يشمل المجموع. وهنالك من يقول إن ثلاثة أرباع البلد شعراء شعبيين، والذين أعرفهم أنا شخصياً لا يتجاوزون أربعة شعراء متميزين يقدمون تجربة شعرية رائدة ومتقدمة. وحتى يدعى هؤلاء إلى مؤتمرات ومحافل ثقافية، فهم بحاجة إلى تغيير بنية المؤسسات الثقافية التي مازالت على بنيتها الأولى التي أرساها المثقف، والمثقف مازال هو المسيطر على تلك المؤسسات، فهذا إقصاء، ومن المفترض أن المسألة لا تتوقف عند الشعر الشعبي، بل إلى النحت، وإلى بقية الفنون الأخرى المستبعدة، مثل التصميم والمشتغلين بجمع الحكايات والأساطير الشعبية الرواة القدامى، فالمفروض أن يتم توسيع دائرة المثقف، فإذا كانت وزارة الثقافة والإعلام تريد أن توسع دائرة الجائزة القادمة القريبة بعشرة حقول، فهذا معناه أنها تسعى برؤاها إلى أن الثقافة ليست أدباً وشعراً فقط، بل تتعداه إلى فنون أخرى، أو حقول معرفية أخرى، وكان عليها أن تلتزم ما التزمت به الثقافات في العالم العربي، ففي مصر، أو سوريا، أو لبنان، يحتل الشاعر الشعبي مكانه بين الطليعة، ومنهم عبدالرحمن الأبنودي، وطلال حيدر، وسيد حجاب، وجوزيف حرب، وعمر الفرا، وغيرهم. ونحن لدينا بدر بن عبدالمحسن، والذين يقولون إنه شاعر غنائي وليس شعبياً لا يعون أن الشعر الغنائي هو الشعر الشعبي، وهو ما يحاكي وجدان الناس بلغاتهم البسيطة التي توصلهم إلى المتعة. وإذا كانت المسألة هي أن مهرجان الجنادرية يهتم بالشعر الشعبي فقط، ويجب أن نحدث مثل هذا الملتقى من أجل الرد عليهم “فيا ويلنا”! فحالنا وصل إلى مرحلة تردٍّ حقيقي، كون المسألة ليست مجرد أدوار ووجهات نظر نتبادلها حول الفن، ونعطي أنفسنا قيمة فوق قيمتها لسبب أننا نريد أن نكون نخبة. وأكد الشاعر والكاتب إبراهيم طالع الألمعي أن حرباً غير معلنة تقوم بين الشعبي الذي هو أساس الغناء، وبين اللغة الصناعية التي نتحدث بها ونسميها الفصحى، ونتناسى أن عدداً من روادها العظماء كانوا من العجم، وليسوا من العرب، لأن العربي الأصيل في جزيرته العربية لم يكن في حاجة إلى تقليد لغته العربية، بينما قعَّد الأعجمي الذي نشأ خارج الجزيرة اللغة، كونه يحتاج أن يعلم العربية لغير أهلها، فالعربية الأصيلة موجودة بما فيها الشعر الشعبي، ولكن الشعر الشعبي شوهه الإعلام، والسباق الأمي الجاهل، فأنا لا أعترف بشعر شعبي مما تراه وتسمعه اليوم لا في قناة تلفزيونية، أو في مجلة، أو في صفحة شعبية في جريدة. الشعر الشعبي هو غناء الفلاح وراء ثوريه، وغناء الجمّال على جمله، وليس “جمل الجنادرية، أو جمل الترف”، بينما هو جمل الصحراء الحقيقي، وهو غناء الراعي، وغناء الصبايا في محاطبهن ومزارعهن، هذا هو الشعر الشعبي، أما ما تسمعه اليوم فلا علاقة له بالشعر الشعبي الأصيل، هذا اسمه شعر نبطي استخدمه المترفون، وشكلوه خلف الزمن، واعتنى به مترفو القصور الذين يتغنون به في قصورهم فقط، ثم يريدون أن يفرضوه على الشعب، وللأسف فإن أغلبهم فرضه بالشراء، أو بالتجارة، وهو ليس غناء حياة، والشعر الشعبي الحقيقي هو غناء الحياة، فأنت تنافح عن شعر شعبي هو ليس بالشعبي الذي نقصده، والذي أتى أساساً من جزيرة العرب. محمد الرطيان أما الشاعر والكاتب محمد الرطيان، فقال نصف ثقافة هذا البلد هي ثقافة شعبية، وليس من المنطق أن تقصي أحداً من الثقافة، أو صفة المثقف، وكل من له علاقة بالنتاج الأدبي والثقافي والفني، أياً كان شكله، وبأي لغة يصدر، يجب أن تتعامل معه في النهابة كمثقف له حق أن تدعوه إلى أي فعالية ثقافية، وهو مختلف في إنتاجه، وجودة عمله أيضاً تختلف، وفي النهاية كلهم مثقفون ويستحقون الدعوة، وليس من المنطق أن تتعامل مع هذا المنتج، إنه مكتوب بالعامية، وذاك بالفصحى، فهو في النهاية منتج ثقافي، عليك أن تحترمه. واستغرب الدكتور الشاعر صالح الشادي قائلاً أعجب من استثناء الأدب الشعبي، على الرغم من أنه لبنة البناء الأساسية، وهو من مميزات الشخصية الثقافية لدى الأمم والشعوب، فالإرث الثقافي الشعبي هو الذي ميز اليابان، والهند، والمكسيك، وغيرها من الثقافات والحضارات، وشكسبير بالنسبة للبريطانيين لا يقل عن عبدالله بن سبيل بالنسبة لنا، ودانتي لدى الإيطاليين لا يقل عن الجهيمان بالنسبة لنا أيضاً. وإذا كنا نعتقد بأن المثقف السعودي يجب أن ينطلق من منطلقات ثقافية بعيدة عن موروثه الشعبي فقد سقطنا في مأزق التبعية، وإلا فماذا نسمي ما يحدث الآن؟ والعتب ينصب على مفكري ومنظري الجهات المعنية بالثقافة، وسوء فهمهم وغبائهم في بلورة المفهوم البعيد لمثل هذه التظاهرات. نحن نعلم بأن الأميين والمتخلفين والجهلة متواجدون بين كل الفئات، حتى ولو كانوا أصحاب تخصص أكاديمي، وتغييب أدباء الشعر الشعبي المحكي عن مثل تلك المشاهد يدل على نظرة قاصرة ودونية، وهنالك من كتاب الأدب الشعبي وشعرائه من يفوق موهبة كثير من الأسماء التي “بهرجت” على “حالات نقل لا حالات عقل”، ومن باب أولى إن كنا نتحدث عن حضارة وثقافة سعودية أن ننطلق من موروثنا الأصيل، وألا تغيب أي وجهة ثقافية كانت، وألا يكون هنالك تقييم، أو تخصيص، أو تغريب. وفيما يخص الجنادرية، فهي أعظم إنجاز حضاري وثقافي نفاخر به بين الأمم، بجمعه في مكنونه مفهوم التراث والثقافة والأدب، والخصوصية التي ميزت بلادنا عن سائر البلدان. فهد المساعد وقال الشاعر فهد المساعد مفردة مثقف أساساً لا أعترف بوجودها. أعترف بمسمى ثقافة، أو تثقيف، لكن أن تأتي وتطلق على شخص بأنه مثقف وتقصي الآخر، فهذه مسألة نسبية، وهي في النهاية صفة مثلها مثل صفة جاهل. وتستطيع مثلاً أن تقول هنالك ملتقى يضم المثقفين، وهنالك ملتقى يضم الجهلة، بمعنى أن صفة مثقف نسبية، وبالإمكان إطلاقها على “معقب” ملم بالثقافة البيروقراطية والتحايل عليها، وبالإمكان إطلاقها أيضاً على صديق يفهم في أعطال السيارات، ويشرف على بناء البيوت، ويحفظ تاريخ الأغنية الشعبية مثلاً، أو حتى نطلقها على صديق ملم بالأماكن السياحية، أو المطاعم في بلد معين. ونحن كشعراء منثورين في المجتمع أكثر التصاقاً بمفهوم الثقافة المتأصل، أما ثقافة “السيجار” فلا تهمنا كثيراً، مع تقديري واحترامي لمن يخالفني.