ما أشبه الأمس باليوم.. إن التاريخ المعاصر يحمل دروساً وعبراً تنتظر منا فقط أن نعتبر ونتعلم منها، ومن الدروس التي يجب تعلمها أن لا ننساق وراء من ينتقصنا ونحاول استرضاءه لأننا حينئذٍ نضع أنفسنا موضع المستجدي ونحكم عليها بأن تعامل دوماً معاملة المتهم فلا تظهر براءتها أبداً. في منتصف القرن التاسع عشر، ظهرت هجمة غربية على العالم الإسلامي وتحديداً الخلافة العثمانية باعتبارها رمزاً للحكم الإسلامي، حيث وجهت أصابع الاتهام للشرقي بأنه يربّي النساء لمصير واحد وهو أن يكنّ جواري للمتعة، وتحبس المئات في الحرملك لمتعة رجل واحد فقط، فيعشن محرومات من التعليم والخروج وغيرها من الحقوق الإنسانية. وقد كان الهدف من ترويج هذه الصورة، كسب تعاطف الجمهور وتأييده لشنّ هجمات استعمارية هدفها الظاهري إنقاذ الشرق من هيمنة حكّامه. لم يدرك العثمانيون وقتها أنها أمر مخطط، بل ظنّوا أنها نتاج سوء فهم لاختلاف الحضارات، فحاولوا إقناع الدول الكبرى كبريطانيا وأمريكا بأنهم شعب متحضر يحترم المرأة ويقرّ حقوقها الشرعية، بتنسيق لزيارات منظمّة لوفود من المثقفين الغربيين للوقوف بأنفسهم على الحال. في عام 1869م، قدمت فنانة إنجليزية تدعى (إليزابيث جريتشو-باومان) إلى كل من اسطنبولوالقاهرة مع أحد هذه الوفود. وفي أثناء الزيارة ذُهلت من مدى تحضر نساء الأتراك، وافتتنت تحديداً بالأميرة "ناظلي هانم" ذات الخمسة عشر عاماً –ابنة مصطفى فاضل باشا وإحدى قريبات خديوي مصر آنذاك- حيث كانت ككثيرات من نظيراتها، متعلمة في أرقى المدارس وتجيد اللغات الأوروبية (الإنجليزية والفرنسية)، إلى جانب براعتها في الرسم. إلاّ أن أكثر ما خيّب أمل هذه الزائرة أن الأميرة على الرغم من تقدمها العلمي والحضاري أيضاً –حيث اعتادت ارتداء آخر صيحات الموضة الباريسية-لم تتخل عن الخمار والعباءة التركية (اليشمك)، واعتبرت أن هذه خسارة كبيرة لا تتماشى مع ما وصلته من علم، وأن شخصية متميزة كهذه الفتاة كان من الأجدر بها أن تعيش بإحدى الدول الأوروبية لا القاهرة. لم تستطع الفنانة تصديق وجود مثل هذه النماذج النسائية في الشرق. وهي خيبة الأمل الثانية، حيث لم تجد الزائرة ما سمعت عنه قبل قدومها من افتراءات المستشرقين حول حياة الحرملك وما يجري فيها من ظلم النساء ومعاملتهن كجوارٍ للمتعة وهو ما وعدت نفسها بتصويره في هذه الزيارة بناء على طلب أميرة دنماركية كانت تدعمها مادياً. كل هذه التفاصيل كُشِفَت في رسائل بعثت بها الفنانة آنذاك إلى زوجها. قررت جريتشو-باومان عمل خطة بديلة تدرّ عليها الربح المادي الذي كانت ترجوه، وبعد محاولات حثيثة تمكنت الفنانة من إقناع والديّ الفتاة بالسماح لها برسمها، ووعدتهم وعداً قاطعاً بأن تبقى اللوحة سريّة حتى لا تُنْتهك حرمة الفتاة فلا يطلع عليها أحد سوى الأميرة الدنماركية التي وعدتها سابقاً بجلب لوحة رسمتها لها خصيصاً من الشرق. وبالفعل لم ترَ العائلة مانعاً طالما كان الفنان والمشتري كلاهما نساء، خاصة وأنهم على معرفة سابقة بالأميرة الدنماركية. إلا أن ما حدث كان مؤسفا، فبعد عودة الفنانة إلى أوروبا طمعت بالشهرة عن طريق تلبية توقعات الجمهور. قامت الفنانة بعرض اللوحة التي رسمتها في معرض عام، إلى جانب صورة فوتوغرافية أعطيت إياها كهدية للذكرى. ولم تكتف بهذا القدر بل عرضت لوحة جديدة رسمتها من الخيال، صوّرت فيها الأميرة على هيئة محظية مستلقية، عارية الصدر، وبالخلف صورة جارية أخرى أفريقية، وادّعت أنها لوحة تصور الحياة الحقيقية للأميرة. على الرغم من أن الحادثة كانت مؤثرة وسببت توتراً في العلاقات التركية الإنجليزية، إلاّ الجميل في الأمر أن الصور واللوحات بقيت كشاهد عيان على تقدم الشرقيات منذ القدم. وقد شهد العقد الماضي عودة نشطة من الباحثين إلى أدب وفنون تلك الحقبة الزمنية، في محاولة لكشف القصص الملفقة، وقصة الأميرة ناظلي هي إحدى ثمار هذه البحوث التي كشفت عن مقابلة الثقة بالخيانة؛ خيانة فنانة إنجليزية بحثت عن الشهرة واستهدفت إرضاء توقعات الجمهور بإشباع فكرتهم المسبقة عن الشرق كمعقل للتخلف والظلم والانحلال الأخلاقي الذكوري. ومازالت هذه البحوث في طور النمو، ومازال التنقيب في أرشيفات الصور والرسائل الخاصة يكشف زيف الماضي، ونحن نأمل اليوم أن نتعلم كسعوديين وسعوديات من التاريخ، أن نفخر بأنفسنا وبثقافتنا ذات الطابع الخاص، ونوقن بأن اختلافنا عن النموذج الغربي لا يعني أننا أقل حضارة وإنما يدلّل على تميز هذه الحضارة بهوية قوية حالت دون انسياقها وراء الآخر، وأبت أن تظهر كنسخة عقيمة تابعة.