من غير المعتاد القول إن هناك مؤثرات عربية أو شرقية في الفنون الغربية. فقد اعتدنا أن نذكر جميعاً وبلا وعي أن هناك دائماً مؤثرات غربية على كل ما هو شرقي وعربي، وفي هذا المقام يثبت الباحث التأثير المصري في الفنون الغربية وقد اتخذ من القرن التاسع عشر زمناً لبرهنة أسانيد بحث القيم. في مقامنا هذا نحاول إلقاء الضوء على البحث القيّم الذي قدمه الدكتور محمد المهدي طلبة الى المكتبة العربية والذي كان موضوعه «الفن المصري وتأثيره في مدارس الفن الحديث خلال القرن التاسع عشر»، وقد ارتكز الباحث في طرحه موضوعه على ثلاثة محاور: المحور الأول: الفن المصري بمراحله الثلاث المعروفة: الفرعونية ثم الهيلينستية البطلمية القبطية وأخيراً المرحلة المصرية العربية. المحور الثاني: مدارس الفن الحديث خلال القرن التاسع عشر. المحور الثالث: العلاقة بين مراحل الفن المصري الثلاث ومدارس الفن الحديث خلال القرن التاسع عشر. ولنبدأ بالمرحلة الأولى، حيث وجهت الحركة النقدية للفنون التشكيلية الخاصة بالمدرسة الكلاسيكية والواقعية الأوروبية نقداً حاداً إلى الفنون الفرعونية بسبب انعدام وجود الظل في المنحوتات والرسوم الفرعونية وكذلك عدم وجود أي شيء يوحي بالبعد الثالث في الفنون المصرية القديمة... كان هذا هو النقد الذي وجهته الحركة النقدية الأوروبية الى الفنون المصرية إلى أن تطورت دراسة علم المصريات واكتشفت مراحل فنية فرعونية جديدة حيث كشفت بعض اللوحات فنية واقعية الأسلوب، وهذه الواقعية لا تلتزم قوانين المرئيات والقواعد الفيزيائية في العمل الفني، بل تقوم أساساً على التعبير بأسلوب رمزي تجريدي بحت. وفي المرحلة الهيلينستية البطلمية القبطية كان الحدث الأهم هو التقاء فنون حضارات البحر المتوسط. ولعب التزاوج الذي نشأ من الفنون المصرية التجريدية مع الفنون اليونانية دوراً مهماً في المرحلة القبطية حيث إن الفنان المسيحي لم يكن يكتفي بالظاهر (المجرد) فأضاف إليه وذلك من خلال تمصير هذه الفنون (المتزاوجة) حتى يرضي رغبته في قراءة الباطن الذي يمنحه العمل الفني حيث إن الفصل الظاهري لم يكن ليرضيه واستمر هذا (النحل) من الفنون المصرية واليونانية الى أن كان اللقاء في العصر الفاطمي (القرن العاشر الميلادي) حيث استمر الفن القبطي بكل ما يحمله من ملامح فرعونية وهيلينستية في تصوير الأشخاص من خلال الأيقونات القبطية حيث ان كنيسة الاسكندرية لم تكن تحرّم الصور. وبمجيء العصر المملوكي (1250 - 1516م) أضيف إلى الفنون المصرية عنصر جديد ألا وهو الحرف العربي. ولأن الفن المصري كان له تاريخ طويل في وجدان الفنان المصري قبل دخول الإسلام، فقد ظهر هذا التأثير في الفن المصري بعد الإسلام حيث حرص الفنان على معمارية الخط سواء بصورة مستقلة أو مضافاً إلى غيره من الفنون. وبذلك أصبح العصر المملوكي هو عصر اكتمال الرؤية التجريدية المصرية في الفنون والتي بدأت كما ذكرنا رؤية رمزية في العصر الفرعوني حتى أصبحت جنيناً له ملامح مملوكية. ثم جاء عصر القطيعة المعرفية والفنية بين مصر (الشرق) والحضارة الغربية بسبب هيمنة العصر العثماني وفرضه العزلة الحضارية على الولايات التابعة للدولة العثمانية... وظلت هذه القطيعة قائمة بين الشرق والغرب بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي (وهي مراحل النهضة الأوروبية) وتم تجديد اللقاء بين الشرق والغرب مرة أخرى من خلال مصر عبر ترجمة المستشرق الفرنسي غالاندGalland للملحمة التراثية «ألف ليلة وليلة» عام 1704 ثم بدأت مرحلة جديدة من التأثر بالفنون المصرية القديمة بعدما قدمت الحملة الفرنسية سفرها الضخم «وصف مصر» في 23 مجلداً بين عامي 1809 و1828 وكشف شامبليون بعض حروف اللغة الهيروغليفية عام 1822 وأعقب ذلك اهتمام كبير بالآثار والفنون الشرقية والإسلامية. وأثرت الفنون المصرية في الفنون الغربية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر في المرحلة المعروفة باسم الاكزوتيك، أي انها لم تعد فقد إعجاباً بالمظاهر التي شاهدها الفنان الغربى حيث شجع انفتاح الحاكم المصري محمد علي غرباً في محاولة للتحديث على ظهور مرحلة ما يعرف بالاستشراق الفني، ومن أهم رواد الاستشراق الفني الذين زاروا مصر وتأثروا بها الفنان بريس دافين وفريدريك لويس حيث واكبت عملية الاستشراق الفني ظهور ظاهرة «التمصر» Egyptomanieوهذه الظاهرة كانت تعني آنذاك اشاعة النموذج الفرعوني في تظاهرة الحياة المعاصرة من فنون تخص العمارة والديكور والنحت والتصوير... وهذا يعنى أن من ملامح هذه المرحلة هو التأثير المباشر للفنون والروح المصرية في الفنون الغربية وفي أعمال المستشرقين وبخاصة الفرنسية كما يتضح مما سبق. وليس هذا فحصاً، بل إن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد توثيقاً لعرى الصلة بين الفنون الشرقيةوالغربية أو بمعنى أوضح ستشهد هذه المرحلة تحول العلاقة بين مجرد استلهام الغرب من الشكل الخارجي للفنون الشرقية الى محاولة قراءة الباطن أو البعد الحضاري والرؤية الخاصة التي يرى بها الغرب فنون الشرق وإبداعاته. أما في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر فتم اكتمال المؤثر واللقاء بين مقاييس الفن المصري والفرعوني والفن المصري العربي من ناحية وبين مفاهيم الفن الحديث ومدارسه الغربية حيث اعتمدت هذه المدارس أسلوب إغفال البعد الثالث في العصر الفني والاكتفاء بالبعدين (الطول والعرض) لتأكيد استقلالية اللوحة عن مقاييس المرئيات المباشرة... والمثال على ذلك ما فعله الفنان سيزان في هندسة الأشكال في رسومه للطبيعة الصامته وما سعى إليه الفنان غوغان لتوسيع المساحة اللونية المتماسكة وذلك تأثراً بأسلوب التجريد الرمزي الفرعوني، ثم جاءت لوحات فان غوغ بتركيبة لونية لا تماثل الواقع... اما أكثر التأثيرات الشرقيه وضوحاً فتظهر في اعمال الفنان مايتس حيث يظهر في اعماله مدى تأثره بالفن العربي وهندسة الآرابيسك. ثم يختتم الباحث الاستاذ الدكتور محمد المهدي طلبة بحثه القيّم حول التلاقح بين الفنون الغربيه والفنون الشرقيه ومدى تأثر الفنون الغربية بالمؤثرات الشرقية في الابداع بتلك النقاط التى تزيد الأمر إيضاحاً والتي نستطيع أن نوجرها بما يأتي: هناك لقاء بين الفن المصري الفرعوني القبطي والشرقى العربي من جهه وبين قواعد مدارس الفن الحديث من جهه اخرى وذلك كما يأتي: 1- إدراك الفنان الغربى أهيمه البنية المعمارية للوحة. 2- مدى أهمية الشكل الهندسي في أبسط أجزاء التكوين الخاصة بالعمل الفني. 3- محاولة تجاوز الفارق الملاحظ بين ما يطرحه العمل الفني من لوحة أو نحت وبين الفن التطبيقى الواقعي في هذا العمل الفني محل البحث. 4- استقلال الفنان عما تطرحه الطبيعة وما بها من مخلوقات بمقاييس مختلفة ولغة مستقله في عمله الفني بعيداً من التقييد والالتزام بالمقاييس الطبيعيه للعمل الفني. 5- التعامل مع الوجدان الإنساني من دون وسيط حيث اقتضى هذا إلغاء الفارق بين العقل والعاطفة في التذوق الجمالي... فالتراكيب الهندسية أو التجريدية توصل المشاهد أو المتلقي إلى الحالة الوجدانية المطلوبة من دون متاهات أو هوامش. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان ما سبق يعد تبياناً لنقاط التأثير ونقاط اللقاء بين مقاييس الفنون الشرقية والفن الغربي ومدارسه، فما هي النتائج التي تمخض عنها تبني هذه المدارس لهذه الاسس الجديدة والتي لم تكن معروفة لديها قبل هذا التخصيب الشرقي لها؟ يجيبنا الباحث الدكتور محمد المهدي بما قد توصل إليه في بحثه من تاريخ تبلور هذا التأثير في الفنون الغربية ومدارسها كما يأتي: 1- إعادة الاعتبار الى مفهوم البناء المعماري للعمل الفني ومن ثم إعادة الاعتبار الى فن العمارة وفنون الحضارات التي أبدعت في هذا المجال ومنها الفن الفرعوني والقبطي والعربي. - إدراك أهمية التذوق الجمالي بالمفهوم التجريدي في إلغاء النزعة الذاتية وغرور الفنان وصولاً إلى العمل الفني الضخم الذي تساهم فيه جماعة مبدعة كفنون الجداريات والعمارة المصرية القديمة وبالتالي تتذوقه الجماعة من دون احتكار من فرد مثل فن الحفر في العصر الحديث الذي يلغي نسبياً فكرة احتكار العمل الفني. - تقدير الفن الحديث للفنون الشعبية المبدعة بفطرتها عند جميع الشعوب ووضع مقاييس الفن بالاختلاف في الكيف وليس التقدير بالكم. - ساهم هذا التأثر في ربط الاسلوب التجريدي بين فنون العالم وطموحه للوصول إلى المتلقي والمتذوق العالمي حيث يتذوق هذا الغير هذه الفنون إلى جانب فنونه حيث انها تتحدث كلها بلغة مشتركة من دون حاجة الى النقل المباشر أو السطحي... يختلف في النوع ولا يستعلي في الدرجة. وإذا كانت هذه الدراسة الجديرة بالاحترام والتي قدمها الباحث الاستاذ الدكتور محمد المهدي طلبة لم تقدم نتيجة إلا النتيجة الاخيرة... فهذه النتيجة وحدها كافيه لإلقاء الضوء على هذه الدراسة القيمة، فما أحوج العالم الغربي (المتحضر) الآن لأن يعلم أنه لم يصل إلى هذه المرحله المتقدمة من علو الشأن إلا بعد ان مر كأي جنين طبيعي بمراحل نمو ساهمت الفنون الشرقية كما أثبت الباحث في تكوينها... وتعد النتيجة الأخيرة التي توصل إليها الدكتور مهدي طلبة والتي تتحدث عن وصول العمل الفني لأي متلق أياً كان... تعد هذه النتيجة أهمية كبرى في هذا العالم الذي اصبح يموج بفكرة الصراع بين الحضارات وليس التلاقح بين الفنون والثقافات... وكم كان الباحث موفقاً حين ذكر ما معناه أن الفنون قد تختلف في النوع من دون ان يستتبع ذلك بالضرورة الاستعلاء في الدرجة هذه النتيجة التي لا محل لها من الإعراب في عالم اليوم الذي يموج بالكراهية والعنصرية والتعالي على كل ما هو شرقي على رغم ان هذا الشرق ساهم بالفعل في التأثير في الغرب وفنونه كما سطر بذلك الباحث في بحثه القيم الجدير بالاطلاع والاقتناء وأيضاً بإلقاء ولو بصيص من الضوء عليه علّنا بذلك ننير هذه الدروب المظلمة والحافلة بفنون الصراع ومؤشرات الكراهية والشحناء بين الشرق والغرب... ذلك الغرب الذي تحاول قلة من البشر إيجاد ولو قليل من الجسور حتى يتواصلا ويا لها من مهمة لا يتصدى لها إلا أولو العزم من الباحثين.