بروح الشباب أبت «أمل» ذات ال(21) ربيعاً إلاّ أن تجهز لوازم «قهوة المغرب» بعد عودتها من الجامعة، لحين تجمع كافة أفراد الأسرة، على أمل أن تقضي معهم أمتع الأوقات، لكنها لم تكن تعلم أن شراهة النيران الملتهبة المتعطشة ل»رائحة الشواء» ستنهي مستقبلها، بل وترسلها إلى منفى اجتماعي لن تستطيع تجاوزه دون مساعدة الجميع. أثناء عملها في المطبخ تعلقت النيران بطرف قميصها ذي النوعية الملتصقة، لتندلع في جسدها بأكمله، حيث بلغت نسبة الحروق (100%)، كان منظراً مرعباً لمن لا يعرفها، فكيف بمن يعرفها وشاهد ملامحها الجميلة في السابق؟، عيون مطموسة وشفاه التحمت بالأنف، وأذن تساوت مع الخد، أظافر متفحمة وجلد منتزع، هذا ما كانت عليه «أمل». مكثت «أمل» في المستشفى فترة حتى تماثلت للشفاء وعادت الدماء إلى عروقها المتفحمة، حان الموعد لترى نفسها بعد تلك الحادثة المرعبة، وأراد الطبيب أن تكون أسرتها بجانبها، كانت بحاجة إلى حضن دافئ كحضن والدتها لتدس رأسها الصغير فيه، والذي أفقدته النيران معالمه، كانت «المفاجأة اللامتوقعة» من قبل ذويها الذين اجتمع بهم الطبيب وأخبرهم المنظر الذي سيشاهدونه، وعندما رأوها قاموا بالصراخ والاشمئزاز وإبداء الخوف منها، لتبدأ في حالة بكاء وتطلب والدتها، لكن الأخيرة تجاهلت نداءاتها وتركتها غارقة بصدمتها، هنا تفاجأ الطبيب والأخصائية الاجتماعية اللذين بدورهما عملا على تهدئتها، بل ومحاولة احتوائها، اتجهوا إلى والديها وأشقائها لتوبيخهم، لكن الطبيب تفاجأ برد والدها: «لا أريدها، بكيفكم تصرفوا فيها مثل ما تبون، أخسر وحده ولا أخسر خمسة»!، تدخلت الأخصائية ولكن والد «أمل» أصر على موقفه بحجة أن ابنته أصبحت مرعبة وأنفسهم لا تقبلها، وهو يخشى أن يعاقبه الله على سوء معاملتها، لتفشل كل محاولات المستشفى والأخصائية، وتبقى «أمل» يتيمة الأبوين وهم أحياء، وحيدة دون سند، متقوقعة على حاجز الصمت الذي فضلته لحين انتهاء أوراقها، لتتبناها وزارة الشؤون الاجتماعية ك»يتيمة مشوهة»!. «الرياض» زرات «مدينة الملك سعود الطبية»، للوقوف على بعض الحالات، مع معرفة كيفية تأهيلها، وإعادتها إلى الحياة، وكذلك «قشع» «السحابة السوداوية» التي تحوم فوق رؤوسها. د.مثنى توفيق حوادث مؤسفة يرقد الشاب خالد -18 عاماً- في أحد المستشفيات، والذي ودع ذراعه في حادث دامٍ، فقد فيه أعز أصدقائه، لتصبح المصيبة اثنتين، كل ذلك بسبب سرعة جنونية كانت نتيجتها "بتر الذراع" بالكامل، حاولنا الحديث مع "خالد" إلاّ أننا تفاجأنا برده: "أرجوك أنا تعبان ولا أبي أحد، حتى أهلي ما أبيهم، صديقي ويدي راحوا الله يخليك اطلعي"!، تمتمنا له بالدعاء والصبر وخرجنا مسرعين كي لا يشعر بتأثرنا بحالته. في الغرفة المقابلة وجدنا "إبراهيم" -25 عاماً- أصيب في حادث سيارة عندما كان يقضي بعض حوائج منزل أهله، تأثرت فيه ثلاث فقرات مسببةً له إعاقة، اقتربنا منه ودعينا له بدعوات صادقة، لنفاجأ ببكائه وبحرقة قائلاً: "الحمد لله، الحمد لله، الله يعوضني بشبابي خير". "ثواب الشيباني" -50 عاماً- كان يتوسد ذاك الفراش منذ أكثر من شهرين، فقد قدرته على السير والإحساس بأطرافه السفلى، تحمدنا له بالسلامة، وسألناه عن حالته الصحية وقال بنبرة حادة: "أنا بخير والحمد لله ما جاني شيء، وبرجع أمشي غصب عن الدكتور، هو مو فاهم شغله ووالله لأشتكيه"!، كان رافضاً ذاك الواقع المأساوي، متمسكاً بتلك القوة والجبروت المتجلية بشخصيته المنكسرة، تمنينا أن يكون كلامه صحيحاً، وأن ما حدث خطأ في التشخيص، ولكن الحقيقة للأسف كانت تؤكد العكس. عدم تقبل وبدأت "أم فهد" في قسم "تنويم النساء" في تقبل قرار الأطباء في بتر قدمها التي أصابتها "الغرغرينة"، تقدمنا منها وقبلنا رأسها، لنجد دموعها تنهال ك"حبات المطر"، مرت فترة صمت لتبتسم وتقول: "الحمد لله، قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا". بين تلك التأوهات والأوجاع قالت "نوره فرحان" -رئيسة قسم التمريض لجراحة العظام والعمود الفقري في القسم النسائي-: يصعب على الإنسان أن يفقد أية جزء من أعضائه فطرياً، ونرى أن الإنسان السوي يصعب انكسار الأظافر، فكيف أن يفقد عضوا كان يستخدمه، وعطاؤه فيه توقف، مضيفةً أن الإنسان لا يتقبل هذا الوضع ولا يوجد أية إنسان يستطيع تقبل هذا الوضع إلاّ بعد مرور وقت من الزمن، مشيرةً إلى أنه قبل أن يبدأ الطبيب بمعالجة المريض، يتم تهيئته ليتقبل وضعه الصحي الجديد، من خلال الاختصاصيين، ومن ثم يبدأ العلاج، وهذا ما يتم فعلياً في المدينة، موضحةً أنه من خلال وجودها في القسم منذ أكثر من (15) عاماً رأت ردود فعل متفاوتة لدى المرضى والأهالي، حيث رأيت الزوج الذي تخلى عن زوجته، وآخر طلقها لعدم قدرته على تقبل وضعها!. د.يحيى أبو عمارة تأهيل نفسي وجسدي والتقينا "د.يحيى أبو عمارة" -رئيس قسم الحروق واستشاري التجميل- وقال إنه يرد إلى العناية المركزة أكثر من (100) حالة حرق سنوياً، لا يتم علاجهم فقط، بل وتأهيلهم تأهيلاً كاملاً من خلال مجموعة من الأطباء، كطبيب التجميل والحروق، وطبيب العلاج الطبيعي، كل ذلك لأجل إعادة تأهيله نفسياً وجسدياً واجتماعياً، موضحاً تجربته في القسم وملازمته لجميع المراحل التي يمر بها المصابون، مؤكداً على أن المرضى في البداية يكونون في حالة صدمة ورفض، بل وعدم استيعاب لمدى خطورة الحالة وتبعاتها، فتبدأ هنا مهمة الطبيب في نقل الصورة الواضحة للمريض وذويه، وما هي التبعات المستقبلية ومدى خطورتها، إضافةً إلى التشوهات الحاصلة بالتدريج، وهذه المهمة من أصعب المهمات على أي طبيب، والذي لابد أن يكون وقتها أخصائيا نفسيا واجتماعيا، مشيراً إلى أنه يجب أن لا يكون هناك نوع من التعاطف المفرط من قبل الطبيب، كي يستطيع أن يستوعب جميع ردات الفعل المتوقعة واللامتوقعة. المرأة أكثر تأثراً وأوضح "د.أبو عمارة" أن المرأة أكثر تأثراً نفسياً من الرجل، والتأثير عليها أقوى وأعمق، مرجعاً ذلك إلى تعلق المرأة بالجمال، وحول آثار الحروق الجسدية والنفسية وكيفية إعادة تأهيل المريض، قال: الحروق ليست بسيطة والتعامل معها صعب جداً، وخاصةً أن متابعة مريض الحروق تستمر إلى سنوات عدة، بل يحتاج العودة إلى المستشفى عدة مرات؛ لإعادة التأهيل من الناحية الجسدية والنفسية، وليستطيع إكمال مسيرته الحياتية بشكلها الطبيعي، مبيناً أن العضو يحتاج إلى بتر في حالة حدوث تجلطات في الأوعية الدموية واسوداد في الطرف، وقتها يكون الطرف قد انتهى، والبتر هو الحل الوحيد الذي أمامنا لإنقاذ حياة المصاب. ثواب : فقدت السير على قدمي والأمل كبير إيمان المصاب وبالوقفة على دور الاختصاصين الاجتماعيين في إعادة تأهيل المعاقين والمشوهين، قالت "باسمة المفرح" -أخصائية اجتماعية-: يظل الشباب أكثر معاناةً في مساعدتهم على تقبل حالتهم والعودة إلى الحياة الطبيعية، حيث يصعب أن يشعر الشاب بعجزه وهو في مقتبل عمره، مبينةً أنهم كأخصائيين اجتماعيين مهم جداً درجة إيمان المصاب بالقضاء والقدر، وهي من تساعده على تجاوز مرحلة الصدمة، ذاكرةً أن المجتمع له دور كبير في تردي حالة المريض بعد رفضه، مؤكدةً على أن مدينة الملك فهد الطبية شهدت وعلى مدار السنوات العديدة حالات رفض وتنكر لمن ابتلاهم المولى بأنفسهم، مشددةً على أهمية دور الأهل والذي يعد أكثر أهمية من المريض نفسه، حيث إن تواجدهم والأخذ بيده يساعده كثيراً على التأقلم. متعب الحربي آخر الحلول وأوضح "متعب الحربي" -رئيس قسم الرعاية الطبية للمرضى المنومين- أنه منذ قدوم المصاب إلى المستشفى نحاول تأهيل المريض في تقبل فقدان العضو المصاب من جسده، وذلك بشرح الحالة كاملة له، مع شرح مفصل عن المضاعفات التي سيواجهها في حال بقاء العضو التالف طويلاً، مشيراً إلى أن التأهيل الطبي وحده غير كافٍ، بل لابد من تأهيل اجتماعي ونفسي، مؤكداً على أن المجتمع يتحمل جزءاً كبيراً في تأهيل المعوقين والمشوهين نتيجة القضاء والقدر، وحول كيفية اللجوء إلى البتر قال إنها تعد آخر الحلول بالنسبة لهم، بل ولا تتم إلاّ بعد موافقة خطية من المريض أو ذويه، وفي حال عدم وجود مرافق مع المريض أو أي أرقام توصل الأطباء بهم والحالة طارئة، تجتمع لجنة مختصة لتوقع على ضرورة البتر، مبيناً أنه يتم فوراً وبلا تردد. إنسانية عالية وعن دور الطبيب الناقل للمعلومة وجرأة القرار بانتزاع طرف من جسد ينبض بالشباب والحيوية، قال "د.مثنى توفيق" -أخصائي أول عظام-: خلال (25) عاماً قضيتها في هذا المجال، ومن خلال تعدد الحالات التي وردت علي، تأكدت من حقيقة واحدة، أن الطبيب المعالج يجب أن تكون درجة إنسانيته عالية للتعامل مع الفاقدين لأعضائهم، حيث إنهم ليسوا مرضى عاديين، بل أفراد يتسمون بروح النشاط والشباب، شاء المولى أن يختبر صبرهم، فانتزع أعضاءهم وهم أحياء، مشدداً على أهمية أن يكون الطبيب حكيماً، فإعادة التأهيل الأولى تقع على عاتقه، ذاكراً أنه يجب عليه أيضاً أن يوجد إنسان آخر بدون طرف أو جزء كامل، ويؤهله إلى خوض الحياة بدونه، خاصةً وأن الدماغ يبقى فترة غير مستوعب فقدان العضو، فيعطي أوامر للعضو المبتور، مما يخيل للمريض أن عضوه لازال على قيد الحياة، وعادةً تلك الأوامر الوهمية تؤذي مشاعر المريض ونفسيته، ليحتاج إلى تأهيل حتى يتخلص من معاناة تحريك عضو غير موجود. تفهم المشاعر وأوضح "د.مثنى" أن مسؤولية الطبيب لهذه الحالات مسؤولية تتعدى علاقة طبيب بمريض، فالطبيب المعالج يجب أن يكون أكثر تفهماً لمشاعر المريض العاطفية واحتوائها، إلى جانب بث الروح المعنوية المرتفعة، مضيفاً أنه ليس الطبيب من يرمي المعلومة دون أي مراعاة للمشاعر وحجم المصيبة، مضيفاً أن عامل اللغة مهم في توصيل المعلومة وإقناع المريض بحالته وظروفه، حيث أنها تشكل في حال اختلافها حاجزا عاطفيا يمنع من تقبل الحالة، مسترجعاً أكثر حادثة أثرت فيه وكانت الأصعب لشاب في مقتبل العمر لم يتجاوز (21) عاماً، تعرض لحادث سير أدى إلى "هرس" كامل للطرف السفلي، واختلطت فيه العظام والأوعية الدموية والعضلات، مما أدى إلى بتر الجزء السفلي كاملاً، فكان من الصعب عليه كطبيب أن أنهي حيوية شاب ونشاطه ببتر جزئه كاملاً من مفصل الفخذ، ولكن روحه كانت أهم من طرفه، مبيناً أن الشاب عانى كثيراً من المضاعفات والالتهابات، ولكن بإيمانه أولاً وبعلاقتي الأبوية الحانية به، استطعت أن أعيده إلى المجتمع، حتى أنه شاركني الرأي بقرار زواجه ولازلت على تواصل معه حتى الآن.