ما من مدينة تحمل أوزار التاريخ مثل اسطنبول، في عمارتها، في جغرافيتها، في سياستها، وفي أفكارها. هي ذي جغرافياً، تربض على خط الانقسام بين أوروبا وآسيا، قارة الحداثة وقارة التقليد. وهي ذي تحمل في ثناياها المعمار الايطالي، والفرنسي من عصر الروكوكو، والمعمار الاغريقي- اليوناني، من العصر البيزنطي، والمعمار الاسلامي، المضاف الى هذين. ويزدان وجه المدينة من علٍ بالقرميد الأحمر، الذي يغطي سقوف المباني، وبالقباب البيزنطية والمآذن العثمانية المشرئبة المستدقة. وباختلاط جغرافيا المكان، بعمارة الزمان، المتكدس، يعود التاريخ كله ناهضاً. ثمة تركيا العلمانية، المتطلعة الى اوروبا، الصاعدة صناعة واقتصاداً، وثمة تركيا الاسلامية الناظرة الى الماضي العثماني، أو الى إرثه الجيوسياسي. ما من مظهر يشي بوجود تزمت اسلامي. فلا دور سينما اغلقت، ولا الخمور منعت، ولا النساء سُترت. فالحريم التركي لا يتميز عن الحريم السياحي القادم من اوروبا. والبهجة الطليقة لا تشبه القبور في المدن المتزمتة. النوادي الليلية تصيح من دون توقف. والخصور والاكتاف العارية تمشي جوار الجلابيب السود والحجاب القديم. صورة تركيا بالكاد تبدلت عند أهلها. أما عند العرب فقد انقلبت تماما. تركيا حلف الاطلسي، تركيا الحليف الاميركي، وتركيا صديق اسرائيل، تركيا الاتاتوركية الكارهة للعرب، انقلبت في التخيل السياسي العربي (عند تيارات مختلفة) الى النقيض تماماً. ثمة مسلسل كامل مهد لهذا الانقلاب، بدأ اول ما بدأ برفض البرلمان التركي مرور القوات الاميركية لاحتلال العراق عام 2003، مرورا بالموقف التركي من اسرائيل (المشادة مع بيريس في مؤتمر دافوس) وانتهاء بالموقف الداعم لغزة. بغتة تحولت تركيا في التمثلات السياسية للاسلاميين والاصلاحيين، والعروبيين، الى أيقونة جديدة للاعجاب أو التقديس. فالاسلاميون يرون في حزب العدالة امتداداً وتمثيلاً لهم، بل ان بعضهم يستبشر بقرب عودة الخلافة، خصوصاً ذلك الشق الاسلامي الذي يؤرخ في خطابه سقوط الحضارة الاسلامية بإلغاء منصب الخلافة على يد أتاتورك عام 1924 باعتباره الخطيئة الاولى. والاصلاحيون يرون ان الاعتدال التركي يثبت امكان تكيف الايديولوجيا السياسية الاسلامية مع الديموقراطية، او جمع الحداثة والتقليد، وهو امر اولاه الزعيم التركي اردوغان جل اهتماماته في كتابه الموسوم: الديموقراطية المحافظة. والعروبيون يرون في وقفة تركيا بوجه اسرائيل دعما لفلسطين، بل ثمة من يذهب الى اعتبار تركيا ثقلاً موازياً لايران في الاستقطاب الجديد بعد غزو العراق في 2003. هذه التمثلات العربية عن تركيا، هي تمثلات العرب عن انفسهم، اكثر منها تمثلات عن موضوع تمثلاتهم. فهي، كما قال باحث تركي مرموق، نتاج تمزق العرب، وفقدان الاتجاه والزعامة. فأصحاب هذه التمثلات يبحثون عن زعامة وينشدون نجدة للعرب من خارج العرب. ولعل اكثر الافكار لبساً او ابهاما هو الحديث عن «النموذج» التركي. الاتراك انفسهم لا يعرفون ان كان ثمة «نموذج» قد ابتكروه من دون ان يعرفوا. حقاً لقد نمت تركيا صناعياً – اقتصادياً، فهي الآن في المرتبة ال16 من التطور العالمي. حقاً لقد تجاوزت ماضيها العسكري، حكم الخوذة والانقلابات، وشهدت توسع (والاهم تراكم) الطبقات الوسطى الحديثة. حقاً ترسخت في تركيا المؤسسات الجديدة (البرلمان، الدستور) والقوى الاجتماعية الحديثة (طبقة رجال الاعمال) التي تملك الآن القول الفصل. لم تعد المؤسسة العسكرية او الامنية هي الحاكم (كما هو حال كثرة من البلدان العربية). حقاً باتت تركيا اكثر استقلالا عن الولاياتالمتحدة بفضل عوامل كثيرة منها تفكك الاتحاد السوفياتي. والزائر لاسطنبول يجد الحسان الروسيات يتبضعن، كما يجد الفرقة الفنية للجيش الاحمر تحيي حفلات موسيقية في قلب اسطنبول. حقاً هذا كله حاصل. ولكن الحاصل ايضا ان الحزب الاسلامي (حزب العدالة) يعمل في بيئة مؤسسات وافكار علمانية. من هنا اعتداله بقوة الواقع لانحياز ذاتي. وتركيا ما تزال عضواً في حلف الاطلسي. كما ان علاقتها الرسمية مع اسرائيل قائمة هي الاخرى. قطعا تركيا ليست المخلص، كما يرى بعض الاسلاميين (الحالمين) وليست باعث الخلافة من مقابر التاريخ، كما يتوهم البعض، مثلما انها ليست الوكيل الاميركي المتخفي بجلباب اسلامي. ولا هي محرر فلسطين، كما يراها الكثير من أبناء غزة اليائسين، ولكنها ليست الحليف الصامت لاسرائيل. وتركيا ليست الممول السري للحركات الاسلامية المتطرفة، ولا العدو المعلن لحركات الاصلاح والعلمانية. تركيا ترى الى نفسها في غير هذا المنظار. فهي تلتفت الى تاريخها الغابر العثماني، وتاريخها الجديد العلماني، جامعة الاثنين في سياق جديد وظروف جديدة: انهيار قطبية الحرب الباردة، انهيار الايديولوجيات، انفتاح عصر الاصلاح. لعل ابرز سمة في تركيا هي الاعتدال والتوازن كأسلوب في العمل والتعامل، اما الحداثة والتحديث فهما الهدف الارأس ما يزالان. تركيا شأن عاصمتها اسطنبول تعي الان هذا التاريخ بشكل افضل. فهي القسطنطينية، والاستانة، والباب العالي، واسطنبول، وهي جسر آسيا واوروبا. ان كان للنموذج التركي من وجود، فهو هذا التصالح، او التوافق بين الماضي والحاضر، وان كان له من انجاز فهو التقدم الاقتصادي من دون نفط، وان كان له من امتياز فهو الخروج من عباءة العسكر، وهو ايضا الاعتدال والوسطية. انسوا الخلافة، انسوا التركي المحرر، أو التركي الكاره، أو التركي العثماني.