من يرى أهل أسطنبول في رمضان وهم يجهزون موائد إفطارهم داخل حدائق المسجد الأزرق، ليدخلوا بعدها جماعات وأفرادا إلى المسجد لأداء صلاة المغرب بروحانية وتبتل يصبح على يقين أن الإسلام هو أحد الملامح البارزة للهوية الثقافية هناك والتي لم تستطع سنوات الآتاتوركية أن تطمسها. أمضيت في اسطنبول أيام رمضان الأخيرة والعيد، عندما كانت تركيا تصطخب باحتفالاتها، الأولى ببهجة فوز حزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم) باستفتاء شعبي يتضمن تعديلات دستورية هامة تتصدى لهيمنة العسكر وتعمق الفصل بين السلطات ولا سيما القضائية، والفرحة الثانية هو تأهل تركيا لختامي كأس العالم في كرة السلة أمام الولاياتالمتحدة. مع الاستفتاء الشعبي تركيا اليوم تغزو أوروبا عبر أسطول الديمقراطية، فالاستفتاء التاريخي الأخير هو وقفة صارمة أمام العسكرتاريا التركية وتغليب المؤسسات المنتخبة وإرادة الشعب أمام عسكرية تقبض على السلطة لسنوات طوال رافعة شعارات المحافظة على العلمانية والإرث الأتاتوركي. لا سيما أن العسكرية في تركيا عريقة ترافق مطالع التأسيس في عهد العصملي (عثمان أرطغرل) وكانت دوما الدولة العثمانية ذات أهداف توسعية وكيان عسكري قوي ومجتمع تتخلله مختلف مؤسسات الجيش مثل (الانكشارية والدفشرمة). ولم تكن المؤسسة العسكرية فقط هي التي تترصد بالحزب الحاكم في استفتائه الأخير، بل أيضا (40) حزبا آخر من مختلف التوجهات كونت في ما بينها شبه ائتلاف لمواجهة حزب العدالة والتنمية بأرضيته الإسلامية وطموحاته الحديثة الشاسعة. ولكن على الرغم من هذا استطاع الاستفتاء الشعبي أن يرجح كفته، واستطاعت تركيا لأول مرة أن تزحزح العسكر عن الواجهة وتعطي الأولوية لصوت الشعب وممثليه في الحكومة كي يتسنى لهم الحصول على المزيد من الصلاحيات لتطبيق ومباشرة برامجهم الإصلاحية، لربما سنوات طويلة من الاستقرار التي كرستها قبضة العسكر القوية ساهمت في استقرار تركيا ونموها على جميع المستويات بما في ذلك نضج مؤسساتها الديمقراطية. في إحدى مكتبات أسطنبول وجدت كتابا على غلافه صورة لرئيس الحكومة التركي، ولكن بهيئة (هترلية) الشارب والبزة والشعار النازي، ومهما كان مضمون هذا الكتاب من نقد جارح وحاد ضد أردوغان إلا أنه في اعتقادي يظل معه لا عليه فوجوده في واجهات العديد من واجهات المكتبات في أسطنبول مؤشر قوي على استقرار الديمقراطية التركية وارتفاع أسقف التعبير داخلها إلى ما يوازي الشارع الأوربي. الشعار الذي اتخذه حزب العدالة والتنمية في حملته الأخيرة هو (الحاكمية للشعب والقانون وليس للقوة) هذا الشعار انعطافة تاريخية لتركيا العسكرية. ومع معدلات نمو اقتصادي كبيرة ومطردة تخفف تركيا من لهفتها السابقة للانضمام للاتحاد الأوروبي (بعض المتفائلين في تركيا يقولون أوروبا هي التي ستحتاج لنا مستقبلا وليس نحن من سيطلبها) لكن الذاكرة الأوربية ما برحت مدماة من حروب طاحنة ذات طابع ديني لطالما اشتعلت في بحر أيجه والبلقان وصولا لأوروبا الوسطى ومشارف فيينا. تركيا هي مستودع التاريخ، طبقات من حضارات تلوح بعبقرية الإنسان عبر الزمن، عندما تجلس في منطقة (السلطان أحمد) الأثرية بين المآذن والأوقاف، وينسدل على مد النظر البسفور وضفتي آسيا وأوربا، يصلهما جسران الأول اسمه جسر محمد الفاتح والآخر جسر آتاتورك، تعرف أن تركيا اختارت أن تكون آسيا وأوروبا معا، ومحمد الفاتح وأتاتورك.... أيضا معا.