لا تقل يا صديقي إنني بحكم عمري لا ينطبق عليّ معنى (يتيم)، لأن اليتيم هو من فقد المصدر الأصيل والعميق للشعور بالأنس، والعواطف التي لا تأتي إلا من الوالدين.. فهما وحدهما قد خصهما الله بعواطف الحب والحنان الصادق بما لا يكون عند غيرهما أبداً: حب طهور لا يشوب نقاءه كدر، ولا تطغى عليه حقود ولقد اختار الله في الأيام المباركة من الأشهر الحرم إلى جواره أمي الحبيبة، وهي حبيبة حقاً.. حباً عملياً، وشعورياً باقياً متزايداً حتى بعد انتقالها إلى الرفيق الأعلى. اليوم صرتُ - مع كبر سني - بحق يتيماً.. بل كل ما تبقى من أيام حياتي، وستبقين يا أمي أنموذجاً يحتذى في حسن تدبيرك لشؤون الحياة، وجميل صنعك، وحسن هندامك، ونظافتك، ومهاراتك المتعددة، وإتقانك لكل عمل تؤدينه - رحمك الله - لقد عشت عمرك كله متفتحة الرؤى، متطورة الأفكار، عصرية المطالب، مستخدمة للحديث من الأدوات والمخترعات، وقبل هذا كله تعلقك بالله ** ** ** إنه مما أنعم الله به عليّ أن ميزني على كثير من أقراني في العمر أن تكون والدتي في عقود عمرها الأخيرة بجواري معي في ذات بيتي، وأن يتكرر في كل مرة سؤال كل أصحابي - عند لقائي بهم - عن صحة والدتي. هذا السؤال الذي كان حبيباً إلى نفسي قد فقدته الآن - وحرمت من عمق شعوري بارتباطي به. إني لمفجوع بفقدها حقاً، وانتقال روحها إلى بارئها. ** ** ** كانت قبل مرضها ملء البيت وسعادة أهله، وأثناء مرضها هي محل الاهتمام الكامل من كل أفراد أسرتها الذين ظلوا يتألمون ألماً شديداً لمرضها، ويتطلعون دائماً إلى شفائها، فقد كنا - في صحتها، وفي سقمها - نجتمع حولها، ونتزاحم في حجرتها، وفي كل مكان هي نوره وبهجته، ونتسابق إلى جوارها والحديث معها.. ومداعبتها، وبوجودها لم يخل منزلي ساعة من زوارها - أو حاضرين للسلام عليها - أو حب الأبناء والأحفاد لحضورها. شخصية طيبة، توجه، وترشد، وتجمع أحفادها من حولها - بعد أن صار لها أحفاد - وتحدثهم بما كانت تحدثنا به ونحن في مثل عمرهم.. تقول لهم الحكم، وتحكي لهم العبر، وتوصيهم بخير العمل، وتنشد لهم الأشعار، وتسامرهم القصص؛ حتى إن أولادنا يحفظون ما سمعوا منها، ويقتبسون في أحاديثهم مما روته لهم (ماما نورة). رحمك الله يا أمي.. لقد كنتِ شديدة الحرص على ألا تفوت فرصة إلا وتدعين لنا نحن أبناءك وأحفادك بالخير.. ترددين دائماً (جعل الله يومي قبل يومكم، ولا سقاني كأس أحزانكم). ** ** ** رحم الله أمي.. فقد كان كل خير لي حصلتُ عليه - وهو بحمد الله كثير جداً - وكل أمل حققته كان ذلك كله بفضل الله أولاً، ثم بفضل دعائها لي ثانياً.. تحقيقاً لما أخبر به - رسول الله صلى الله عليه وسلم - بما معناه (إن دعاء الوالدين من الدعوات التي لا ترد). ** ** ** يا أمي.. ما كان أجمل تلاقي الجميع من أفراد أسرتك وأنت تزينين بيتي.. إخواني وأخواتي، وأبناء خالتي، وكلّ بأولاده وأحفاده.. ما أسعد، وأمتع تلك اللقاءات التي كان لك الفضل في تحديد مواقيتها، وملئها بالحب، والحنان، والدعابة. لن يملأ فراغك - بعدك - أحد، لن تسكت دعواتي لك بالرحمة والمغفرة لحظة.. اللهم ارحم والدتي واغفر لها.. وأسكنها جناتك.. فقد كانت طيبة لا تعرف الخبث.. كانت على فطرة الإنسان السليمة لم يداخلها مكر. ** ** ** أمي.. منذ سنين طويلة: كنت دائماً عند عودتي من العمل أو السفر لا يسبقك أحد بسلامي عليه إذ كنت أحني رأسي تحية لك، قبلاتك بالشوق متوهجة، نظراتك بالفرحة بعودتي نافذة سعيدة. ** ** ** أمي.. رحمك الله.. كم كنت لي دائماً عالَماً آخر، أحياه سعيداً وأنا بين يديك، فما من أحد مهما كبر سنه يجلس بجوار أمه إلا ويشعر بأنه الطفل الصغير، يمتلكه شعور صادق قوي بالحب والحنان، والإشفاق والحدب، عالا آخر نحياه ونحن بين يدي أمهاتنا. ** ** ** رثاؤك يا أمي لن يخفف من شعوري القوي باليُتم، ولن تفارقني صورتك بالبعد، تلك الصورة السمحة الطيبة التي هي صورة الأم الحنون العطوف، سريعة الاجابة لمطالبي، شديدة اللهفة عندما تظن شيئاً يؤلمني. كبرتُ.. وابتعدت عنك للسفر في الدراسة، ولكنك لم تفارقي حياتي أبداً، ولم تغب عن صفحات الكتب صورتك يوماً، وعُدت لتعيشي معي.. وتُسعدي بحبك روحي، وأسرتي، وأولادي، وأحفادي.. إنك يا أمي دولة كاملة المكونات، وحياة خضراء بكل الطيبات. ** ** ** أمي.. رحمك الله يا أمي وكل أم.. رثاؤك.. بكائي عليك.. صمتاً دفيناً وخلواً بنفسي كثيراً ليس ادعاء.. لكنه حقيقة لم أعرفها إلا بعد فراقك الآن. كم كانت فرحتك وسعادتك وتهليلك بنجاحي، واليوم كم هو حزني وكم هي آلامي وشعوري باليتم بعد فقدك يا أعز الناس عندي. ** ** ** مهما حزنت على فقدك.. مهما ذرفت الدموع صمتاً عليك فلن يوازي ذلك ذرة من هائل فرحتك وجميل أحضانك عندما أعود من سفر، أو أجيء بعد غياب.. لك الجنة مسكناً يا جنة الأبناء، لك الرضوان والمغفرة من الله جزاء يا أعظم وأصدق إنسان. ** ** ** اليوم صرتُ - مع كبر سني - بحق يتيماً.. بل كل ما تبقى من أيام حياتي، وستبقين يا أمي أنموذجاً يحتذى في حسن تدبيرك لشؤون الحياة، وجميل صنعك، وحسن هندامك، ونظافتك، ومهاراتك المتعددة، وإتقانك لكل عمل تؤدينه - رحمك الله - لقد عشت عمرك كله متفتحة الرؤى، متطورة الأفكار، عصرية المطالب، مستخدمة للحديث من الأدوات والمخترعات، وقبل هذا كله تعلقك بالله، وحرصك على أداء فرائضه، وأداء كل النوافل - فقد كنت صائمة معظم الأيام، قائمة أغلب الليالي.. لقد كنت نعم الزوجة المثالية الحانية، والأم العطوفة حقاً الرقيقة طبعاً، والمربية فضلاً. ** ** ** لم يمنعك تقدم سنك من أن تلتحقي بمدارس محو الأمية حتى أجدت القراءة حرصاً منك على قراءة القرآن الكريم، وقد مكنك الله من ذلك، فكنت قبل مرضك مداومة على قراءة القرآن، حتى انك كنت تختمينه ثلاث مرات كل شهر، وهذا فضل عظيم من الله، ورصيد ثمين لك في الآخرة.. ليتنا مثلك في هذا. ** ** ** وحين أراد الله أن أكون أكبر أولادك فإنني أعاهد الله وأعاهدك على أن أبقى على السيرة التي أردتها لي، وأن يكون بيتي مادمتُ حياً ملتقى للجميع كما كنت في حياتك، وها أنا قد صرت اليوم يتيماً بعدك. ** ** ** ولنكثر يا إخواني.. ويا أولادي، ويا كل أهلي وأحبابي من الدعاء لها.. لتفرح به عند ربها.. كما كانت هي تُفرح الجميع بخيرها، وطيب تعاملها، ولطف معشرها.. رحم الله أمي (نورة ابنة أحمد بن عثمان الركبان) فلقد كانت بحق اسماً على مسمى؛ فقد ملأ نورها حياتي، وأضاء طريق عمري، وبقيت حتى آخر لحظات عمرها ضوءاً يملأ كل بيتي، وحباً يغمرني وكل إخواني وأختي، وزوجتي وأولادنا، وأحفادنا، وسائر أفراد الأسرة والأهل والأقارب معي. ودعاؤنا لله أن يجمعنا بك في الجنة، وأن تكوني مع الصالحين المكرمين برضوان رب العالمين. لقد غمرني - ومعي إخواني وأبنائي وكافة أفراد أسرتي - الأحبة المخلصون بصادق مشاعر العزاء، وخالص الدعاء لفقيدتي فجزاهم الله عني خيراً، وكانت تلك المشاركة الطيبة بلسماً خفف عني وعن إخواني وأقاربي كثيراً من الأسى والأشجان. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.