وماتت .. نبع الندى ( ..في سُرَادِقات ذكراها ) أكثر الصور أهمية التي يراها الناس خلال حياتهم ، هي لحظات أساسية من الخبرة محجوزة في سائل في عيونهم كما يرونه ...، وإن كانت مشاعرٌ باكيةٌ لا ينسجها إلاّ الكلمات حتى لو كانت كأوراق ما قبل المغيب. إلهي ..هذه الحياة لقاء ووداع ، دمعة عند الوداع ، وابتسامة عند اللقاء، والذي يجمع بينهما هو الدعاء.إلهي.. ارحم أحبة لنا رحلوا عن الدنيا وأحفظ أحبة لنا ما زالوا على الدنيا رحمكِ الله يا أمي.. " أمي " .. صفحاتها تنسلخ بالمتلقي أياً كان زائراً ، عابراً ، طفيلياً ، متملقاً ،غريباً ، مريضاً من تداعيات الحاضر وتنقله إلى هناك ، إلى المنطقة الأرجح في قلب الابن والابنة .. الحفيد والحفيدة ، فيقبض بيده شيئاً من قيمتها ، ليشمَّ عبق روحها الطاهرة وينعش آفاقه ودفتي أيامه بقصة إنسان في هذا الزمان ، تلك الأم كانت وصفٌ دقيقٌ يجعلك على مقربة من الموصوف بذاتها وأروقة حنوها تلمس جدران الحقائق العتيقة.. حقائق تتمسك بالحياة وترفض فكرة الموت !! ، حقائق تؤكد الأصالة وتجسّد سرّ الوجود في مثلث: " الإنسان والمكان والزمان " دائماً أتذكر وجه غاليتي " أمي " ، وأُعاتب نفسي على كل تقصير لم يُتحَ لي الوقت لتعويضه ،وعلى كل دقيقة ضَنَنْتُ بها عليها ، مفضلاً البقاء مع أبنائي أو لانشغالٌ آخر.. لقد أعطت حياتي ولو لبرهة ثقة ومعنى ، تعلمت منها أن الغنى في النفس وليس في البطون والخزائن. بالفعل ، أفتقدها بشدة وحسرة ، وأحسُ بأن وجودها " فقط " كان يغنيني عن كل شئ أحياناً كنت أبحث عنها " رحمها الله " بين وجوه الآخرين – حتى في أيام عزاؤها وضجيج الدموع ويتضاعف الألم عندما أتذكر أنها رحلت بلا عودة.. ساذجٌ من يقول : ( إن الرجل يبحث جاهداً عن ملامح أمه في المرأة التي يختارها زوجة لنفسه )!!برأيي – لا توجد امرأة على سطح الأرض يمكن أن تعوضك عن حنان أمك أو سؤالها عنك ، فعندما تختلف مع زوجتك " وأختلف أيضاً " يمكن أن تقول لك بكل ثقة : ( أنا ضيعت عمري وشبابي عليك أنت وأولادك وأنت لا تستحق لقب أب أو رجل ).. – تماماً كغيري - أو تجد ضرباً من الشتائم يشعرك بأنك كيانٌ أجوف أو بلاغات أمنية ملفقة تزج بك داخل أسوار السجن المظلم ! كل هذه الجمل والعبارات والشتائم من المستحيل أن تسمعها من أمك حتى لو غرست سكين في قلبها الطيب. كنت أتصور بأن رحيلها يسبقه أياماً جميلة ، وكانت تلك السحابات الممطرات عندما أسقت تلكم الأيام فرحة وبهجة وابتسامات يفوح شذاها عطوراً فائحة وحمامات بيضاء أطلقتها نبضات القلوب في سماء هذا الشهر ، هكذا تصورته كلقاء ما قبل الأخير يجمعنا ، ولكن غبار الواقع كانت أشد حراً وقساوة ،لقد فارقت " أمي " الحياة والرغبات والطموح وسخافات البشر وإيماءات الوجوه ، وتزامن خروج( الطلاب والطالبات من مدارسهم ) في ذلك اليوم مع رحيل وخروج " أمي " من عنق الحياة في يومٍ ظهيرة مشمسة متعرقة تختنق بالازدحام وأنا داخل السيارة ونظراتي إليها وكأنني لا أعرفها من قبل وهي مستلقية على مداد الكرسي الخلفي وتنظر للأعلى بنظرات فاحصة كأنها تقول لي : ( أشعر بوداعاً جميلاً ليس ككل وداع ) ..! الدموع حينها تنساب على عيني نديةً ، شعرت وقتها بأنه أحياناً يتحول الخيال المثالي إلى شئ كئيب وكريه حين يصبح واقعاً ، كأننا في الخيال نرى الفجر ولكن الواقع يعرفنا إلى الفجر الحالك الداكن ، إلى الفجر الذي يرتدي عباءة الليل أو الأصح ، الليل الذي يرتدي عباءة الفجر.. بموتها فقدنا كأسرة شخصية محورية مهمة في تاريخ بناء ونشأة عائلة تخطت مرحلة الأحفاد وبلغت جيل ٌ آخر من ( أبناء الأحفاد ) .. فلن أنسى بأنها كانت محبة للتواصل الإنساني برغم كل ( الأورام السلوكية ) وعشقها لفعل الخير – بقدر ما – وقلبها الكبير الذي انعكس في أياديها البيضاء لمواساة الخادمة قبل صديقتها وإن كانت ( سيدة أعمال ) ومؤازرة من كان مريضاً وتطييب خاطر الثكالى والمكلومين ، فجبلت على حب الخير والقرب من الفقراء برغم إختناقاتها المالية في حالات كثيرة إلاّ أنها كانت كنزاً من كنوز أعمال الإحسان ، فلها مآثرها وكريم سجاياها،وعُرفت بأصدق الحرص على بيتها وأبنائها وسائقها ومن يعمل لديها تحت خط ( البؤس ) وشقاء الحصول على معاشه .. وفي أحيان كثيرة كانت " أمي " مصدراً للعدل والإنصاف ومورداً عذباً ينهل منه كل مريد للإسعاف والإغاثة ولو بشق ( كلمة ) أو باتصال هاتفي لا يتوقعه أحد منّا ... شهقات من الحنين لقد توفيت " أمي " وهي ترفعها إصبعها إلى الخالق تبارك وتعالى واثقة من تضرعها وانتماؤها لله سبحانه ثم للوحدانية به جلّ شأنه ، فكان بكائي دامعاً باسماً في آنٍ ، بل وإجهاض واضح لكل طموحاتي حتى شعرت بغربة قلب وشتات ذات .. ، ليست هي أمور يشيب لها الرضيع فالموت محطة يومية يقف عندها الكثيرون ، ولكن ما إن دبّ الذعر والخوف في مرتع موتها ، وتعالت صيحات الآخرين وهي تختلط بصوت ألسنة القهر والفراق وتنهش بلهيبها قلوبٌ حقيقية وأخرى ( جوفاء ) !!.. إلا وبدأت مشوار العودة إلى الأمس بشريط درامي يسترجع الأحداث أتخيلها تحدث من جديد ،ذلك الشريط الذي يمدّ جسور التواصل معها ، يرتمي في أحضانها ، يغازلها لتبعث الحنين إلى الزمن العطر .. فتحوطني أشياؤها أينما ذهبت ، سريرها ومقعدها وسيارتها وفرشاة أسنانها وأواني مطبخها المتهالك وهاتفها المتواضع وعباءتها وروائح عطورها خاصةً يومي الاثنين والخميس ، فكانت هذه الأشياء – في اعتقادي – أنها بوابات تقودني إلى مستوى أعمق لفهم الحدث ولرؤية نفسي .. هي جسور بيني وبين منطقة الروح ، حيث أن هنالك أشياءٌ لا يرى أحد من بناتها " مثلاً " أن لها قيمة لكنها تمثل ارتباطنا كأبناء بهؤلاء الأحبة الذين رحلوا .أحبوها .. بطرقٍ مختلفة !!( عائشة ) .. أو كما يحلو للكثير بمناداتها ( عيشة ) وهي المرأة التي تعمل لدى " أمي " منذ أكثر من أربعة عقود متتالية ، وهي الأكثر التصاقاً بها دون غيرها حتى في ساعات نومها ولحظات الإفاقة المختلفة ، إلى جانب ذهابها مع " أمي " لقضاء احتياجات المنزل الاعتيادية وغير الاعتيادية أو في زيارتها المحتومة لصديقاتها وأقاربها وغيرهم ... كل واحداً منّا أحبها بطريقة الخاصة ، ويرى بهذا الحب أو العطاء الشفاف أنها الطريقة الأمثل..فهناك من كان يرافقها كظلها في أبسط تنقلاتها لتقديم مراسم التبريكات والمواساة ومناسبات عديدة ، أو ذهابها لسوق الخضار الصغير كل ذلك من وجهة نظر إحداهنّ – أي بناتها – حباً نازفاً وهناك منهنّ من يعطيها وبعقلانية من المواد العينية أو مالاً يسيراً كذلك الأمر رأت إحداهنّ أنه الحب الكبير وأنها الأفضل والأبقى بين أخواتها ، وهناك من تستقبلها في بيتها بعد منتصف الليل – ( وبعد فترة من الهدنة المعاركية الخاصة ) وتقدم لها ما لذّ وطاب مع باقة من الإمتنانات المعاصرة كان أيضاً حباً بل سابقة لم يسبق لها مثيل ..! كل هذه السيناريوهات العائلية كانت أمام مرآى العين ، ومع هذا كله.. كان يشير حاجز الصمت بيني وبينها إلى مؤشرات تثبت بأن حبها لي ( تحديداً ) لا يسددهُ أية دفعات عاطفية أو حياتية !! وجوه .. الأثر الطيب في اوقاتها المريرة ولحظاتها الغائمة لم تكن " أمي " بحاجة لأكثر من حفنة دموع تروي بها انكسارها لغياب زوجها والدي المغفور له بإذن الله..، أو لانهزامها من زمن المتغيرات ونفوسٍ أضناها العناء والشقاء .. يُخيل لي بأن من كان بالقرب منها يشعر بأنّاتها وشقوق جروحها وحتى آمالها المعلقة في سماء الحزن ، فماذا عن ( الخالة سعدية ) التي صاحبتها أكثر من ثلاثين عاماً تحت خطوط الحب والولاء كالسير في دروب الخير على ذلك الرمل الندي ولا يسمع لهذه العلاقة الجميلة وقعٌ مع العلم أن آثارها جلية واضحة ، كذلك الحال مع ( الخالة نجية ) التي ساهمت بقدرٍ ما من المحاباة والمحاكاة ، أما( الخالة أم ياسر ) التي لم تتوانى في إمدادات العون مفعمة بنهج النقاء والرحمة ، أيضاً (الخالة أم سلطان ) الحانية الصارمة ، أو ( الخالة ليلى زعقان ) رحمها الله – والغائبة الحاضرة ( الخالة سلمى) شفاها الله وعافاها مما ابتليت به من بلاء ، والتي كانت من اللواتي يطيب لهنّ المكوث وبتآخيٍ مع " أمي " رحمها الله تعالى ، بالمقابل كان أيضاً هناك من لا يستسيغها – رحمة الله عليها – ويكرهها عنوة حتى درجة الإغماء ، فكان يشعر برغم مأساته التي يعيشها أنه حياته تسير من حسنٍ إلى أحسن طالما ذلك الحقد الدفين ينعش محتواه وكيانه المريض بأن تصاب بمرض خطير أو تمحى من الوجود أو حرقة قلب تصيبها على بناتها تحديداً ومن ثم هي.. وماذا بعد أن رحلت " أمي" فقيدتي الغالية تمضي أيام من عمري وعمر الزمن وتبقى ذكرى موت " أمي " هاجساً باكياً يدق ناقوس حياتي ، إني الآن على مشارف نهاية البوح بعد أن شنق هذا البوح صمتي ، وتوالت شروخ أعماقي وأبت إلاّ أن تنزف دماً وإنها لذكريات ولكن ترسباتها تظل بجوفي ، وما كنت لأكتبها – تماماً كما كتبت لأبي رحمه الله فيما مضى – لولا الذي أيقظ هذه الشروخ والترسبات مما أبكت الخاطر والقلب وأنا قد تجاوزت العقد الرابع من عمري.. وسأبدأ بأيامي من أولها ( رغم ما سبق هذا السرد من إسهاب ) - لا لأنها من الأحزان جاءت بل لأنها من الأحزان انتهت ، فبالأمس وقبل أن تنطفئ قناديل الأمل من سماء حياتي وقبل أن تحرق نار الفراق أحشائي كنت إلى حدٍ بسيط كالنحلة قرب " أمي " لا أتذوق غير رحيقها وكالفراشة لا أهفو إلاّ إلى ضوئها أينما شع .. كانت لي " أمي " نعمة الوجود ، فمن تذوق مرارة موت الأم ومن أستطعم بطعم اليتيم ومن تقاذفته أمواج الخوف وانتحرت رجولته وطمست معالمها الهموم وبات لا يعرف بحضن من يختبئ أو يشكو،لقد ماتت " أمي " وتوارت تحت الثرى فبكيت فراقها وفقدت حنانها ودفء أنفاسها وعذوبة مناداتها وطيب أحضانها ، فأقبلت بوجهي على الأحزان أجوب خضم الحياة القاسية صامتاً يحتويني الاحتراق ويثقلني الانكسار في زمن حب الذات السوداوية ..هي ذروة كل سعادة ، فيا لهفي عليها والموت ينزعها ، فيا عزاء نفسي كيف تندمل جراحات اليتيم ..لقد أحسست بأن رجولتي الآنية وطفولتي الغائبة ذهبتا إلى عالم آخر غير الذي ألفته ..لقد حزنت حتى تقرحت مشاعري وتألمت حتى أشفق الألم ، وأقول بأن الرضا كل الرضا لما كتبه الله تعالى لي من شتات في أحزاني لأهرب بها من أعين البشر وأجوب فيافي النسيان وقفار السلوى علمتني الحياة أن لا أبوح إلاّ لقلمي ، ولا أستعين إلا بخالقي الله سبحانه وتعالى. حفيف الشجر: اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ،وذكرنا وأنثانا ،اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم أنزل على قبورهم الضياء والنور ، والفسحة والسرور ، وجازهم بالحسنات إحساناً ، وبالسيئات عفواً وغفراناً ، حتى يكونوا في بطون الألحاد مطمئنين ، وعند قيام الأشهاد من لآمنين ، وبجودك ورضوانك واثقين ، وإلى أعلى علوِّ درجاتك سابقين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ....... آمين غازي الدليمي إعلامي سابق – مُعدّ برامج تليفزيونية [email protected]