عند كتابة سيرة شخص ما، يتم الجناية على فرادته، تنميطها ووضعها في قالب فج غالبا.أتحدث عن ذلك النوع من السير الذاتية الذي يكتب بأثر رجعي، بعد سنوات من وفاة صاحبها، وتبدأ تخوض بصيغ تحكمية مرعبة. فتحدد أهم أحداث حياته وأجملها، والمنعطفات الهامة التي مر بها صاحب السيرة، بصورة تجني على هذه الشخصية، وتضلل القارئ. وتجعل البشر متشابهين بطريقة مثيرة، فكلهم حكمت حياتهم علاقاتهم الطفولية، وعاشوا حياة قاسية، ثم جاءت الحبية الملهمة ! من يستطيع الجزم بأن التأثير الأهم في حياة شوبنهاور كانت تلك اللحظة التي دفعته والدته من أعلى السلم " وهي مثقفة و كان يجتمع إليها الناس" فقال لها: لن يذكرك التاريخ إلا كأم لشوبنهاور. وهذا ما حدث بالفعل. هل هناك من يستطيع الجزم بأثر هذه الحادثة على سبيل المثال؟ أو حوادث أخرى لم تنقل عن شوبنهاور ولم يتحدث عنها ! نحن نغض الطرف عن أن الإنسان نفسه حين يكتب سيرته الذاتية يتعامى عن نقاط ويضخم أخرى، ويؤسطر نفسه تارة ثم يحاول أن يسترد تعاطف قارئه في صفحات أخرى، لنقول: يا له من عظيم انتصر رغم كل شيء. ربما كان " تقرير إلى غريكو" لنيكوس كازنتزاكس أفضل مثال على هذه الأسطرة، فلم يكتب سيرة ذاتية ، بل ملحمة مكتملة، لا يمكن تصديقها إلا كعمل مسرحي إغريقي أصيل، لا كسيرة ذاتية لروائية، وإن كان مذهلا ككازنتزاكس. عمد كازنتازكس إلى خلق أسطورته، رهبنته، وبحثه عن الحقيقة. ثم طيشه ونزقه، وفروسية شعبة وثرائهم التاريخي. إذا ابتعدنا عن السير التبجيلية، فمن النادر في عالمنا العربي قراءة سيرة ذاتية استقصائية، تبحث في حياة الشخصية لتقديمها وكشف أبعادها لا تبجيلها وتحتفي بها، فيغلب على كتابة السير التبجيل للشخصيات التي نحب. ربما تأتي نوعية أخرى من كتابة السير، يغلب عليها الفضح، فتتحول إلى كتاب " أصفر" الغرض منه تشويه الشخصية والبحث عن الإثارة الرخيصة، وقصص الجنس والبحث عن الشذوذات. ربما كنا بأمس الحاجة للسير التي تستقصي وتبحث، فلا تبجل وتحتفي، أو تشوه وتفتري. وبالقليل من التحيزات والأسطرة، أو القولبة والتحكمية.