هذا مرض نادر، ولا أعلم اذا كان موجوداً الآن أم لا؟!. هذه القصة أنقلها من كتاب الأديب اليوناني نيكول كازنتزاكس، والذي كتب فيه سيرته الذاتية الفكرية، وكتبه بعنوان «تقرير الى غريكو» وترجمه الى اللغة العربية الشاعر والأديب السوري ممدوح عدوان، بلغة جميلة، تكاد تكون شعراً، واظن أنه بذل فيه مجهوداً كبيراً، فهو سيرة فكرية لشخص غير عادي.. وما يحتوي هذا الكتاب فيه من العمق الفكري ما يجعل أحياناً من الصعوبة نقل ما يقصد الكاتب، خاصة وأن كازنتزاكس يخلط بين الثقافات الدينية والحديثة، وبحثه عن الخلاص بين هذه الثقافات المختلطة والتي قد تتباعد أحياناً بشكل غير عادي. أعود إلى ما أريد أن ارويه، وهو في الصفحة 423 من ذلك الكتاب «وصلنا الى دار سينما ملونة بأضواء حمراء وخضراء ودخلنا وتبوأنا مقاعد مغطاة بالمخمل. في الطرف الأقصى كانت شاشة متألقة تمر عليها بسرعة ظلال قلقة. ما الذي كانوا يفعلونه؟ يقتلون اويُقتلون ثم يقتلون. الى جانبي كانت تجلس فتاة رائحة انفاسها عابقة بالقرفة. أحسست بصدرها يعلو وهي تتنفس، ارتعشت. لكنني لم ابتعد، التفتت وتطلعت اليِّ لوهلة، وفي شبه الظلمة المخيمة على الصالة خيل اليِّس أني رأيت ابتسامتها. سرعان ما أحسست بالاكتفاء من مراقبة تلك الظلال فنهضت لأخرج. ونهضت الفتاة ايضاً، عند المخرج التفتت مرة أخرى وابتسمت، وبدأنا حديثاً. كان القمر يسطع فوقنا، فتوجهنا إلى الحديقة وجلسنا على مقعد صغير، كان الوقت ربيعاً، وكان الليل حلواً كالعسل والليلك عابقاً. كان الازواج يمرون باستمرار. وبدأ بلبل مختبئ بين الليلك يغرد فوق رؤوسنا. وتوقف قلبي. لم يكن طائراً، لابد أنه جني داهية، أعتقد أني كنت قد سمعت هذا الصوت ذاته من قبل - عندما تسلق جبل بسيلوريتي- وعرفت ما يقوله. مددت يدي ووضعتها على شعر الفتاة. سألتها «ما اسمك؟» فأجابت ضاحكة «فريدة. لِمَ تسأل «اسمي امرأة». عند هذا الحد انفلت شيء رهيب من فمي لم تكن الكلمات التي قلتها كلماتي -لابد أنها تخص واحداً من أسلافي- وليس أبي الذي كان يحتقر النساء. بل هو شخص آخر. وفي اللحظة التي نطقت بها أحسست أن الرعب يهيمن عليِّ. ولكن بعد فوات الأوان. - فريدة هل تقضين الليلة معي؟ أجابت الفتاة بهدوء ليس الليلة. لا أستطيع غداً. أحسست بالارتياح فنهضت بسرعة كبيرة. افترقنا. وعدت متعجلاً إلى غرفتي. وعند ذلك حدث شيء لا يصدق. شيء يجعلني أرتجف حتى الآن حين أتذكره. أروح الانسان غير قابلة للتلف فعلاً؟ إنها فعلاً نبيلة وجليلة القدر، ولكن لأنها مضغوطة على قلبها فإنها تحمل جسداً يزداد تعفناً كل يوم. في طريق عودتي الى البيت سمعت الدم يصعد إلى رأسي. ثارت ثائرة روحي حين أحست أن جسدي كان على وشك الوقوع في الخطيئة. فقفزت على قدميها، مترعة بالاحتقار والغضب. ورفضت ان تمنح الإذن. وتابع الدم تدفقه إلى الأعلى، وتجمع في وجهي إلى أن أدركت شيئاً فشيئاً ان شفتي وخدي وجبهتي قد تورمت. وصغرت عيناي إلى درجة أنه لم يبق منهما إلا شقان صغيران. وبصعوبة فائقة صرت أستطيع أن أرى أي شيء، وأنا أتعثر في مشيتي ورحت أوسع خطاي وأركض متلفهاً باتجاه البيت كلي أتطلع إلى المرآة وارى الحالة التي كنت فيها. وأخيراً حين وصلت، وأشعلت الضوء وتطلعت فأطلقت صرخة ذعر. كان وجهي كله متورماً ومشوهاً بشكل مخيف. بالكاد كانت عيناي تظهران بين كتلتين مندفعتين من اللحم الوردي. وفمي أصبح شقاً طويلا عاجزاً عن الانفتاح. وبغتة تذكرت الفتاة فريدة. كيف استطيع ان اراها في اليوم التالي، وأنا في هذه الحالة المقرفة؟ كتبت برقية «لا أستطع المجيء غداً، سآتي بعد غد» ثم سقطت على سريري يائساً. أي مرض يمكن أن يكون هذا؟ سألت نفسي. أهو الجذام؟ حين كنت طفلاً في كريت كنت كثيراً ما أرى المجذومين بوجوههم المنتفخة القانية المتقشرة دائماً. وتذكرت الآن أي رعب كانت تثير في وجوههم «إلى درجة أنني قلت ذات يوم» لو أنني ملك لأخذت كافة المجذومين وعلقت على رقابهم حجارة وألقيت بهم في البحر». هل من الممكن أن يكون «اللامرئي» - احد اللامرئيين- قد تذكر كلماتي اللانسانية فأرسل عليِّ هذا المرض المرعب عقوبة؟ لم أنم لحظة واحدة تلك الليلة. كنت متشوقاً لمجيء الفجرك لأنني قلت لنفسي إن المشكلة قد تنتهي في الصباح، وكنت أستمر في لمس وجهي لأرى ما إذا كان الانتفاخ قد بدأ يخف. عند الفجر قفزت من السرير وركضت إلى المرآة. كان هناك قناع مرعب من اللحم يكسو وجهي. وكان الجلد قد بدأ يتفجر وينزف، لم أكن إنسانا بل كنت شيطاناً.استدعيت الخادمة لأعطيها البرقية. زعقت وخبأت وجهها براحتيها، في اللحظة التي فتحت الباب ورأت وجهي، ودون أن تجرؤ على الاقتراب مني اختطفت البرقية وذهبت. مر يوم ويومان وثلاثة وأسبوع وأسبوعان. وذات يوم خشيت أن تأتي الفتاة إلى غرفتي وتراني. كنت أبعث بالبرقية ذاتها «لا أستطيع أن آتي اليوم، سأتي غداً». لم أكن أحس بأي ألم، لكنني لم أكن استطيع أن أفتح فمي لكي آكل، كان طعامي الوحيد هو الحليب وعصير الليمون، وكنت أمتصهما بمصاصة، وأخيراً لم أعد أستطيع التحمل. كنت قد قرأت كتباً عديدة في التحليل النفسي كتبها فلهلهم ستيكل، التلميذ الشهير لفرويد، فذهبت أبحث عنه. إن نفسي هي التي أوقعت بي في هذا المرض دون أن أعرف السبب. وتكهنت: أن نفسي هي المسؤولة. بدأ البروفسور العالم يستمع لاعترافي، حكيت قصة حياتي: كيف كنت أبحث عن طريق للخلاص منذ بلوغي. وكيف وجدته في النهاية مبسطاً جداً ومتفائلاً جداً.