بمجرد تشريح جثة إنسان واحد، أدركت البشرية ان لكل إنسان قلباً ودماغاً ورئتين، الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، ليس في الشكل والأعضاء فقط، ولكن في المشاعر الأساسية: الحب، والبغض، الشجاعة والخوف، الكرم، والبخل، إلى آخر المشاعر الإنسانية. وفي سبيل درء التفرقة العنصرية قام فريق علمي متخصص وراقي المستوى، بتكليف من الأممالمتحدة، بتشريح عدد كبير من أدمغة البشر الموتى من مختلف الأجناس: الألماني، والأفريقي، الأمريكي، والآسيوي.. إلى آخره.. وأثبت هذا الفريق بدراسة موضوعية أنه لا يوجد أي فرق بين أدمغة البشر.. ما يسقط حجج المنادين بالتفرقة العنصرية آنذاك، ولكن الإسلام الحنيف سبقهم بمئات السنين، قال الله عز وجل: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» - سورة الحجرات 13. ويقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض علي أسود الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط) أو كما قال عليه السلام.. ولسنا في حاجة إلى هذه المقدمة (الخطابية وهي صادقة) لنثبت ان الثقافات تتشابه وتتلاقح على مستوى العالم، ليس في هذا العصر السريع الذي أصبح فيه العالم كالقرية الواحدة لشدة الاتصال ونقل المعلومات.. فقط ولكن من قديم الزمن وان كانت الأمور نسبية بالطبع. إن الثقافات الشعبية أو المأثور الشعبي (الفلكور) كان ينتقل من بلد إلى بلد ومن أمة إلى أمة على ظهور الجمال وسطوح السفن قبل الاختراعات الحديثة، فنجد ان قصة شعبية من المأثور النجدي وهي: (وقف مرزام بيته) موجودة في المأثور الشعبي الفرنسي، ولكن بعنوان: (وقف مزماره).. كل شعب يلبس القصة عباءة بيئته.. ومعظم القصص والمأثورات الشعبية تم تناقلها من بلد إلى بلد، وتعد من الهدايا والتحف والطرائف يفرح ناقلها ومستقبلها. غير ان هناك بعداً آخر لتلاقح الثقافة الشعبية مع الثقافة العالمية السائدة في كل مكان وزمان، في أرقى العصور وأكثرها انحطاطاً، وهو ان تفكير الإنسان متشابه، وشعوره واحد، وان اختلفت التفاصيل الفرعية: كل البشرية تمجد العدل، وتمقت الظلم، وتقول في ذلك الحكم والأمثال والأشعار بفصيح اللغات وعاميها، الأخلاق الأساسية ظلت وستظل ثابتة عند المجموع البشري، من صدق، وعدل، وشجاعة، وكرم، ونحو هذا، والأخلاق السيئة مجمع على سوئها من ظلم، وكذب، وغدر، وبخل، نحو هذا، هذا هو الوجدان الجماعي للبشر كافة، والشذوذ يؤكد القاعدة. *** حتى في الاقتصاد وعالم الأعمال تظل القواعد ثابتة.. ذم البخل وذم الاسراف معاً.. اليقين بأن الثروة تتحقق بالتوفير والتشمير مع عدم اغفال الحظ في كل لغات الأرض، والدعوة العالمية المشتركة لانتهاز الفرص الطيبة وعدم تضييعها.. مثلاً هنالك مثل نجدي شعبي يقول: «هات بضاعة جيدة وابسط في البر» أي الصحراء.. بمعنى ان صاحب البضاعة الجيدة سوف يتوافد عليه المشترون وان كان بعيداً عنهم، ويقول الفيلسوف الأمريكي امرسون عن هذا (ان الممتاز في أي بضاعة أو فن، يستطيع ان يشيد بيته في قلب الغابة العذراء التي لم تطأهأ أقدام البشر، والناس سيجشمون أنفسهم شق الطرق في قلب تلك الغابة لكي يصلوا إليه». ومن المأثور الشعبي الذي سمعته شخصياً من شيخ كبير في السن ان أباه أوصاه فقال: اقسم مالك ثلاثة أقسام: قسم مع العقال في عقار جيد له عائد أو تجارة رائحة. وقسم مع المهبل في أراض بعيدة أو نحوها.. وقسم لا تراه الشمس بأن يكون سائلاً أو في مصرف. وقولهم: التجار ثلاثة: تاجر وهو الذي يشتغل بنصف رأس ماله.. وتويجر وهو الذي يشتغل برأس ماله كله.. وسماد التجار وهو الذي يستدين ويتاجر بأموال الآخرين. ومن القواعد الاقتصادية المأثورة بمختلف الصنع والتراكيب قولهم: (لا تضع البيض في سلة واحدة) والمسألة في الأساس تعود للاحتياط والاحتراس وحسن الاستعداد يقول ابن سبيل: لا تأخذ الدنيا خراص وهقوات يقطعك من نقل الصميل البراد لك شوفة وحده وللناس شومات ولا وادي سيله يفيض بوادي ما ينفع المحرور كثر التنهات ولا يسقي الظامي حضيض الوراد الصميل: قربة الماء الصغيرة.. المحرور: النادم. التنهات: التنهدات. حضيض الوراد: أثر الماء في المورد الذي لم يبق منه تقريباً سوى الطين.. ويقول المثل العربي: «أحزم من الحرباء» لأن الحرباء تتلون مع المواقف تلقائياً لتنجو من الهلاك.. ومن مأثورنا الشعبي (من لا يقيس قبل الغوص ما يفيده القياس إذا غاص» أو نحوه وقولهم «قس عشر مرات وقص مرة واحدة» ويقول اليونان «انظر قبل ان تقفز» ومن المأثور الفارسي «الق حجراً فوق رأس الأفعى ولو ظننتها حبلاً» قلت: الاحتياط هنا ينفع ولا يضر، ويقول الشاعر العربي: وكن في مكان إذا ما سقطت تقوم ورجلاك في عافيه وفي المأثور الصيني: «لا تطرد كلباً قبل ان تعرف من هو صاحبه» وكلها أمور تدعو إلى الاحتياط والاحتراس والحذر وفي مأثورنا «احذر من غراب» لأن الغراب قلما يصيده أحد، لشدة احتراسه واحتياطه لنفسه.. و«احذر من ذئب» لأن الذئب لا يقدم على أمر - بما فيه الافتراس وهو جائع - إلاّ بعد ان يجس النبض ويدور حول المحيط من بعيد، والذئب حذر يقظان نائماً، قال الشاعر: ينام بعين ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم *** وفي اختيار الزوجة هناك تأكيد مشترك على أهمية صلاح الأم، أم البنت.. يقول حميدان الشويعر: لا تضم التي قد حكي بامها تحسب العيب بار وهو ما بري ويقول الصينيون: إذا كانت أم الفتاة صالحة فتزوجها ولو كان أبوها الشيطان نفسه» أعوذ بالله ولكنها المبالغة الغنية. وفي المأثور المصري «كب الجره على فمها تطلع البنت لامها» ويقول المثل المجري: «انظر إلى الأم ثم تزوج البنت» وكثيرة الأمثال حول هذا الموضوع.. *** (البومة تنادي ولدها) وهذا مثل شعبي نشأ عن اسطورة تقول ان نداء البومة المزعج والمتكرر موجه لولدها الذي فقدته إلى الأبد.. يضرب لانتظار ما لا يعود.. ومثله في المأثور العالمي (في انتظار جودو) ويقول الشاعر العربي عن العنقاء والغول: أيقنت ان المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي قلت: والثالث غير مستحيل.. أما الغول فقد زعم الصعلوك (تأبط شرا) أنه قابلها ليلاً وصارعها فصرعها وهو لص كذوب لا تقبل شهادته في فلس، وكلامه عن (الغول) كنداء البومة ولدها. أما (العنقاء) فصدق فيها قول الشاعر: أرى العنقاء تكبر ان تصادا فعاند من تطيق له عنادا!