في إحدى زياراتي الأخيرة لباريس اقتنيت زهاء عشرين عنواناً جديداً من إحدى المكتبات الباريسية بحيّ سان ميشال الشهير. وسأسعد بتقديم بعض القراءات لمجموعة من هذه العناوين النقديّة والمعرفيّة والثقافيّة إلى قرّاء جريدة «الرياض» الغراء، من حين إلى حين. وأبدأ اليوم بتقديم كتاب بعنوان: «المعجم الموسوعيّ الجديد لعلوم اللّغة» لأُزوالد ديكرو وجان ماري شافر. وإذا كان هذا المعجم الخاصّ بتحديد المفاهيم صدر، في الحقيقة، منذ عشرِ سنوات، فإنّ الزمن لا ينبغي له أن ينزع عنه أهمّيّته البالغة، وقيمته المعرفيّة الثابتة، لأنّ المعرفة الحديثة تقوم على ضرورة إدراك أسس المفاهيم وأصولها وتمثّلها تمثّلاً صحيحاً. ذلك بأنّ أيَّ مسألةٍ نتطرّق إليها بالمعالجة في حقل المعرفة لا ينبغي أن نأتي ذلك إليها إلاّ إذا كنّا مزوَّدين بتمثّل المفاهيم تمثلاً دقيقاً، أو على الأقلّ، تمثّلاً قريباً من الدّقّة. ولعل من أسباب استفحال الخلاف بين النُّقاد العرب المعاصرين، وعلماء اللسانيّات والسّيمَائيات جميعاً، في المشرق والمغرب، أنّ كلاًّ منهم قد يتمثّل المفهوم المعرفيّ المستعمَل لديه على نحوٍ يختلف عن تمثّل الآخر له في استعماله، وعلى نحو يختلف عن أسسه الصحيحة في أصل إنشائه في الثقافة الغربيّة، في بعض الأطوار. وليس يعني ذلك أنّني أنا، أو أنّ أيّاً من غيري في العالم العربيّ، يستطيع أن يزعم للنّاس أنّه قادر على إدراكٍ معمّق وموسّع يمكّنه من تمثّل هذه المفاهيم المعرفيّة فيضع لها مصطلحاتٍ ملائمةً، إن لم تكن دقيقة، في اللّغة العربيّة، فذلك مطمح يبدو بعيد المنال في العهد الرّاهن على الأقلّ؛ ولكنّ الواحد منّا حسْبُهُ أن يتميّز عن سواه بما يحتاط ويتأنّى ويتشدّد، ويؤصّل ويؤثّل، لدى اتّخاذ هذه المفاهيم حتّى لا يكونَ كحاطبٍ بليل، يستعملها في كتاباته كيفما اتّفق. وأهمّيّة تحديد المفاهيم، وتدقيق المصطلحات، حملاَ أهل الغرب على العَمْدِ إلى تخصيص معاجم وظَفِيّة (نسبة إلى الوظيفة) للمعرفة المتخصِّصة؛ فإذا هناك معجمٌ لمصطلحات الفلسفة، ومعجم لمصطلحات اللّسانيات، ومعجم لمصطلحات السّيمَائيّات، ومعجم تقني وتحليلي لنظريّة المعرفة (وسنحاول تقديمه لاحقاً إن شاء اللّه إلى قرّاء جريدة «الرياض»)، وهلمّ جرّاً... ولا تزال المعرفة في العالم العربيّ، إذا قُورنت بما بلغتْه لدى أهل الغرب، في بداياتها الأولى، على الرغم من أنّنا نعاصر القوم، ولا ينقصنا شيءٌ لنكونَ أمثالهم... ولذلك لا نكاد نظفر بمعاجمَ عربيّة متخصّصة تتناول المفاهيم التي هي درجة عليا في سلّم المعرفة، إلاّ لماماً، كمعجم الفلسفة لجميل صليبا الذي هو، في منظورنا، مجرّد ترجمة لمعجم الفلسفة لأندري لاَلاَنْد أكثر منه تأليفاً مبتكراً. ثمّ إنّه قد مضى الآن عليه زمن طويل... أرأيت أنّ أيّ معجم من هذا الجنس يجب أن تعاد مراجعته باستمرار لِيُضافَ إليه ما استجدّ، ولِتُصحَّح الأخطاء السابقة فيه، وليُوضَّحَ ما غمُض منها في مادّته، ولحذف ما لم يعدْ مستعمَلاً في حقله. ومن الآية على ذلك أنّا وجدنا أزوالد ديكرو الذي كان اشترك في تأليف «المعجم الموسوعي لعلوم اللّغة»، في الأصل، مع طودوروف الذي ظهر سنة 1972 بباريس، لم يمنعه ذلك من أن يعيد فيه النّظر بالاشتراك مع مؤلّف آخر هذه المرّة، وهو جان ماري شافر (بالإضافة إلى خمسة علماء آخرين ساعدوا على إنجاز هذا العمل العلميّ الضخم وعلى رأسهم طودوروف) تحت عنوان طرأ عليه بعض التغيير وهو: «المعجم الموسوعيّ الجديد لعلوم اللغة» (وعنوانه في أصل لغته: «Nouveau dictionnaire encyclopédique des sciences du langage»، وهو الذي ظهر منذ تسعة أعوامٍ بباريس في حلّة جديدة بإضافة عدد ضخم من المصطلحات، وتوْسعةِ أخرى، وحذْف مفاهيم لم تعُدْ متداوَلة في الاستعمال، وهلمّ جرّاً... وقد رُمِزَ لكلّ مادّة من موادّ المعجم باسم أحد أصحابها السبعة لدى تحريرها... كيما تزدادَ الشرعيّة العلميّة وثوقاً لدى إرادة الإحالة على المفهوم المتناوَل. وهو سلوك علميّ جديد لم نشهد من قبلُ له مثيلاً في التّأليف الجماعيّ. هذا أمر. وأمّا الأمر الآخر فإنّ هذه المفاهيم أمستْ من السَّعَة والتّضخّم بحيث سيكون من الصّعب على المتعامل المعاصر، ناقداً كان أو لسانيّاً، أو سِيمَائيّاً، متابعتُها كلّها، واستيعابها برُمّتها، ولكنْ حسْبُه تمثّل أكثرِها أهمّيّةً، وأقلِّها إشكالاً. لأنّ الاختلاف في استعمال المصطلح النقديّ واللّساني والسيمَائيّ ليس موقوفاً علينا نحن العربَ المعاصرين، ولكنّه ابتدأ من الغربيين أنفسِهم، كما يتوَكَّدُ ذلك من العودة إلى معاجمهم النقديّة واللسانيّة والفلسفيّة والمعرفيّة جميعاً... فذلك، إذن، ذلك، كما يقول الجاحظ. والمعجم الذي استخرجنا منه المفهوم الذي نودّ تقديمه باختصار شديد، هو عبارة عن مجموعة ضخمة من المصطلحات التي نستعملها في كتاباتنا اللسانيّة، وفي كثير من كتاباتنا النّقديّة والسيمائية، المعاصرة بوعي معرفيّ طوراً، ودون وعي معرفي طوراً آخر، وذلك بحكم أنّها أمستْ مندمجةً في لغتنا التي نستعملها في كتاباتنا ومحاضراتنا، وحتّى في المحادثات التي تكون في العادة بين مثقّفين ومثقفين آخرين أُولي تخصّص واحد... وقد عرض المؤلّفان (ومعهم خمسة آخرون اقتصروا على تحرير موادّ قليلة في المعجم) لمئات المفاهيم، إن لم نقل للآلاف منها، حيث لاحظَا في المقدّمة أن «علوم اللّغة تطوّرتْ في تفاصيلها منذ عشرين سنة إلى درجة أننا لم نعد نجد في المعجم الأمّ شيئاً ذا بالٍ». وقد قسّم المؤلّفان معجمهما إلى أبواب، أو حقول معرفيّة كبرى، تتمحّض كلّها للّغة وما له صلة بها، أهمّها: المدارس، والحقول، والمفاهيم العَرضيّة، والمفاهيم الخاصّة. ومما تُنُووِل في باب الحقول مثلاً: «مكوِّنات الوصف اللّسانيّ»؛ «اللّسانيات الجغرافيّة» (أو جغرافيا اللسانيّات)؛ «اللّسانيّات الاجتماعيّة»؛ «اللّسانيّات النّفسيّة» (أو علم النّفس اللساني)؛ «تحليل المحادثة»؛ «البلاغة»؛ «الأسلوبيّات»؛ «الشعريّات»؛ «السِّيمَائيّات»؛ «السّرديّات»؛ «فلسفة اللّغة». يبقى أن نومئ إلى أنّ كثيراً من المفاهيم التي تبدو من عناوينها ضخمة ومثيرة بالقياس إلى القارئ المتوسّطِ الثقافةِ، أو بعضها على الأقلّ، هو مستعمَل ومبتذَلٌ في الثقافة العلميّة العامّة مثل مفهوم «اللّسانيّات الجغرافيّة» الذي يعنينا أمره في هذه المقالة القصيرة. فحين يقرأ القارئ ما كُتب بتفصيل دقيق، في المعجم الموسوعيِّ الآنفِ الذكْر، عن هذا المفهوم اللّساني المنصرف إلى الجغرافيا، أي إلى أمكنة معينة تستعمل لغة معيّنة واحدة... فاللّهجات العربيّة مثلاً تندرج ضمن هذا المفهوم الذي تناوله العرب تحت مفاهيم أخرى. فاللسانيات الجغرافيّة هي في أبسط غاياتها الاشتغالُ بالبحث في اختلاف اللّهجات داخل لغة واحدة كبيرة، (وقد يحدث ذلك، كما يلاحظ ديكرو، دون وعْيٍ من المستعمِلين)، وغالباً ما ينصرف إلى الاختلاف في نطق حرف واحدٍ من اللّغة لأسباب تعود أساساً إلى طبيعة البيئة ووعورتها، أو سهولتها، أو إلى اقتراب بعض مستعمِلي اللّغة من حدود بعينها، كفتح نون «نستعين» لدى قريش، وكسرها لدى أسَد وغيرهم... وكقلب بعض الحروف لتقاربها، في إقامةِ بعضها مقامَ بعضِها الآخرِ كقول أهل الحجاز: «هَإنّك»، وهم إنما يريدون: «أإنّك»؟ في حالة استفهام... وقلْب الألف هاء في لغة العرب كثير (أراقَ =هَراق...). وكقلب الكاف شيناً في كشكشة تميم... وكان علماء اللّغة العرب الأقدمون يتناولون اللسانيات الجغرافية تحت مصطلحات متعدّدة مثل ما كان يطلق عليه ابن جنّي «تداخل اللّغات»... وهو كثيرٌ، حتّى إنّ الاختلاف بين لفظين في النّطق كثيراً ما يُفْضي إلى إنشاء لفظ ثالث، فقد قيل إنّ رجلين اختلفا فقال أحدهما الصّقر، وقال الآخر بل هو «السّقر»، فلمّا احتكما لرجل ثالث قال: أنا لا أقول أيّاً ممّا تقولان، وإنّما أقول: «الزّقْر»!... وإذا كان العرب القدماء لم يربطوا القبائل بالجغرافيا صراحة، فإنّهم بتحديدهم اسم القبائل، يكونون قد عمَدوا إلى ذكْرها ضِمْناً؛ إذ كان لكلّ قبيلة موطنُها الخاصّ بها، ضمن الموطن الكبير الذي كان الجزيرة العربيّة... وإلاّ فإنّ تعريف مفهوم «اللّسانيّات الجغرافية» ليس إلاّ «تجسيد اللّهجات في علاقتها بمحلّيّتها التي هي اجتماعيّة وحيزيّة في الوقت ذاته». (ديكرو). وأيّاً ما يكن الشّأن، فإنّ من المفروض ونحن العربَ نعيش عصرَنا، ولا ينقصنا الفكر ولا المال، أن نعمد إلى ترجمة مثل هذه المعاجم التقنيّة والمعرفيّة التي تتناول مفاهيم المعرفة لنذيعها بين الشباب فتغتديَ مبتذلة بينهم، مفهومة عندهم، قبل أن ينتقلوا من ذلك إلى مرحلة الاستيعاب، ثمّ إلى مرحلة النقد والاختلاف، قبل الشّروع في إبداع المعرفة.