لم يكن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة يجيد لغة النثر، فهو شاعر فقط لا غير. ومع أن لسواه من الشعراء بعض النثر، على الأقل، إلا أن عمر أبو ريشة لم يترك شيئاً منه. وحتى في الحوارات القليلة - نسبياً - التي أجراها معه صحفيون، فإنه كثيراً ما يجيب على أسئلتهم بالشعر، أي بترداد أبيات أو قصائد سابقة له، مع نثرٍ قليل يهتد به لهذا الشعر الذي يجيب به. ويبدو أن عملية تحويل النثر إلى شعر، عملية قديمة عنده تعود إلى أيام الدراسة. فهو يروي في حوار قديم معه يتضمنه كتاب صادر حديثاً في دمشق، وعنوان «مبدعون في ذاكرة الوطن»، أن سليقته الشعرية هذه حققت له بعض المكاسب أيام دراسته الابتدائية والثانوية. كيف؟ كان علم النبات أكره العلوم إلى نفسه، وكان من المستحيل عليه أن يحفظ أسماء المئات من الأصناف النباتية وفوارق نموّها وتفاعلها الحياتي. وكان رفاقه يرسبون في امتحانات هذه المادة في حين كان ينجح هو. وقد عجب الأستاذ من ذلك فاستدعاه وسأله أمام رفاقه وسأله عن سرّ المعجزة التي لم يحققها سواه من رفاقه. فقال له: لقد طويت أسبوعاً في نظم كتاب علم النبات فيما يشبه ألفية ابن مالك وبلغة لا يفهمها إلا صاحبها.. يسرد عمر في هذا الحوار أسماء شعراء أجانب قرأ لهم. يذكر براوتغ وأدغار ألن بو وأوسكار وايلد وكيتس وروبرت بروك بالإنكليزية، وبودلير وفاليري وسيلي بريدوم بالفرنسية. في تلك الأيام، لم يكن عمر يعرف، كما يقول سوي هاتين اللغتين، ولكنه اتجه فيما بعد إلى تعلم لغات أخرى غيرهما، فأُعجب بشعراء أتراك وهنود واسبان وبرتغاليين أمثال مشادو وألبرتو دو اليفييرا وأولافو بيلاك وكاسترو ألفيس. على أنه رغم قراءته لهؤلاء الشعراء، لم يتأثر بأحد منهم. لقد مهّدوا له السبيل لا أكثر لكي يخلق شيئاً جديداً. «فأنا بنيت بيدي الكوخ الذي أحبّه وأقيم فيه، وليس لأحد منهم حجر واحد بين أحجاره». حول موقفه من الشعر الحديث يقول عمر إنه ليس هناك شعر قديم أو شعر حديث. هناك شعر وشعر وحسب. فبينما تراه مقيداً بلون ونغم في بعض الأحيان، تراه مطلقاً من هذين القيدين في كثير من الأحيان. وهو هو يفعل في النفس بمقدار ما يحمل من عطاء، وبمقدار ما عند تلك النفس من قدرة على التلقي. إن بعض الشعراء تأثروا كثيراً بدراسة الإنسان وعقله الباطن. فالصور التي يطلقها العقل الباطن غير واضحة ولا يبلغ العقل الواعي منها غير كلمات مبعثرة لا رابط بين الواحدة والأخرى منها، فتأتي القصيدة مجموعة من الألفاظ المتباينة التي كانت إطاراً كاملاً لصورة من صور العقل الباطن، فكان الشعر السوريالي والتشكيلي وما يتفرع منها. «ولكن لم أعمل به لأن ما يهمني من الصورة أو الفكرة هو الكل لا الجزء. أذكر أني تعرفت إلى سيدة ذات عينين عجيبتين، وفي أحد الأيام، وبينما كنت أتأمل جمالها، سمعت عقلي الباطن يقذف بالكلمات التالية: - العينان وحشيتان، أهرب، النيل، الكهان، المعبد.. رأيت السيدة مطرقة في ذهول. شعرت أني عشت مع هاتين العينين في عصر من العصور البعيدة. سألت السيدة إن شعرت بشيء فظنتني أهذي. الشاعر السوريالي المخلص يكتفي بتسجيل هذه الكلمات الست ويعتبرها قصيدة. أما بالنسبة لي أنا المؤمن بخلود الروح، وبأني زرت هذا الكوكب أكثر من مرة، فقد جمعت تلك الكلمات الست وجعلتها إطاراً لصورة ارتاحت إليها نفسي فقلت: عيناك سوداوان وحشيتان أقرأ في طرفيهما عمري فكم طواني في مداه الزمان وما طوت نجواهما صبري فهذه ليلتنا الحالية عادت بأشتات المنى الغالية ليلة نام النيل مغترا محتضنا حسناءه البكرا وزمر الحسان - في رقصها الفتان - تواكب الألحان بالصنج والمزهر والند والعنبر - وخلفها الكهان والمعبد الأكبر، ونحن؟ هل تذكرني؟ كيف انسللنا كيف شفينا الحنين وفي حمى نخلة - ترنحت قبلة - فسلسلت نملة - فأطفأت غلة. فإذا وصل السؤال إلى المرأة والحب، غاب النثر تماماً تقريباً لصالح الشعر. فهو يجيب سائله على هذه الصورة: لقد درجتُ في هذه الحياة الدنيا وليس في قلبي فراغ أو متسع لغير الحب. أول ما عرفت المرأة، وأنا في فجر العمر، قلت فيها: ألِفتُها ساهمةً شاردةً تأملا طيف على أهدابها كسّرها تنقلا شقّ وشاخ فجرها خميلةً وجدولا وماج فيها رعشة حرى وشوقاً منزلا ناديتها فالتفتت نهدا وشعرا مرسلا واللحظ في ذهوله مفروق تململا طوقتها يا للشذا مطوقا مقبلا فما انثنت حائرة ولا رنت تدللا ولا درت وجنتها من خجل تبدلا كأنها في طهرها اطهر من أن تخجلا! واستوقفتها في يوم من الأيام، ورددتُ اثير رسائلها ومعها هذه الأبيات: قف لا تخجلي مني فما أشقاك أشقاني كلانا مر بالنعمى مرور المتعب الواني وغادرها كومض الشوق في أحداث سكرانِ قفي لن تسمعي مني عتاب المدنف العاني فبعد اليوم لن أسأل عن كأسي وندماني خذي ما سطرت كفاك من وجد وأشجان وان أبصرتني ابتسمي وحييني بتحنان وسيري سير حالمة وقولي كان يهواني أي أن عمر رسم لحبيبته السابقة ما يسمونه اليوم خريطة طريق، أي ما الذي يتعين عليها أن تفعله، أو أن تتصرف، إذا أبصرته يوماً.. ثم يضيف بعد ذلك: رأيتها بعد عشر سنوات، فإذا ذلك الجمال أثر بعد عين، وأول ما وقع عليه بصري بعد عودتي إلى بيتي كان تمثال فينوس الواقف في إحدى زوايا المكتب، فقلت: حسناء هذي ديمة منحوتة من مرمر طلعت على الدنيا طلوع الساخر المستهتر ومشت إلى حرم الخلود على رقاب الأعصر عريانة سكر الخيال بعرينها المتكبر إبدا ممتعة بينبوع الصبا المتفجر وشى بها إبداع ناحتها الجمال العبقري ومضى وبنت رؤاه لم تكبر ولم تتغير حسناء ما أقسى فجادات الزمان الأذور أخشى تموت رؤاي إن تتغيري فتحجري! وأسير مع الأيام وتبدأ خيوط الشيب تطل من شعري فانصرف عن الزهو والإدلال إلى التواضع والمداراة، فأراني أردد بيني وبين نفسي.. (قصيدة أخرى). وكتبت في إحدى الليالي في كاتمندو عاصمة النيبال الرابضة على إحدى هضاب الهملايا، وكانت هذه المدينة الجميلة مكسوة بالثلوج ومطفأة الأنوار: قالت مللتك، إذهب، لست نادمة على فراقك إن الحب ليس لنا سقيتك المر من كأسي شفيت بها حقدي عليك، فما لي عن شفاك غنى حسبت دنيا نعيمي فيك ماثلة فخاب ظني فألفيت النعيم ضنى لا أشتهي بعد هذا اليوم أمنية لقد حملت إليها النعش والكفنا قالت، وقالت، ولم أهمس بمسمعها ما ثار من غصصي الحرى وما سكنا تركت حجرتها والدفء منسربا والعطر منسكبا والعمر مرتهنا وسرت في وحشتي والليل ملتحف بالزمهرير وما في الأفق ومضى سنا ولم أكد أجتلي دربي على حدسي واستليت عليه المركب الخشنا حتى سمعت ورائي رجع زفرتها حتى لمست حيالي قدها اللدنا نسيت ما بي، هزتني فجاءتها وفجرت من حناني كل ما سكنا وصحت: يا فتنتي ما تفعلين هنا؟ البرد يؤذيك عودي لن أعود أنا ويمضي عمر بعد ذلك مشيراً إلى «محطاته» مع المرأة وما الذي قال في المرأة عبر هذه المحطات، إلى أن ينتهي إلى قوله: تجليات المرأة، ومعاناتي الحياتية معها، يطول الحديث عنها، ولكن هل لي أن اختصرها بقولي: هي والدنيا وما بينهما غصصي الحرى وأهوائي العنيدة رحلة للشوق لم أبلغ بها ما أوتني من فراديس بعيدة! طال دربي وانتهى زادي له ومضى عمري على ظهر قصيدة! انتهى العمر ولكن قصائد عمر لا تنتهي. إن إعمار القصائد في أحيان كثيرة أطول من عمر الشعراء بكثير. إنها تعيش أجيالاً وأجيالاً. لنعد من جديد قراءة قصائد عمر التي أوردها في حواره مع مؤلف الكتاب. إن بعضها، وبخاصة قصيدة «قالت مللتك» خالد بالفعل. تحتوي هذه القصيدة على حوار بين الشاعر وحبيبته يتفتق عن حالات وجدانية حارة، وفيه يحقق عمر فكرة الحداثة الشعرية التي كثيراً ما ينظر لها الشعراء ولا يحققون شيئاً منها. لنتأمل البيت الأخير من القصيدة المشحون بكل ما كان يختزنه عمر أبو ريشة من كبرياء وإباء، والذي يفيض درامية وسخرية ووقفة وجودية؟