الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وهو الموفق والمعين، ونصلي ونسلم على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد: توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -أيده الله- بكلمة ضافية، وخطاب وافٍ شامل، إلى المشاركين في المؤتمر العالمي: "ظاهرة التكفير: الأسباب، الآثار، العلاج" من المتخصصين والعلماء والمفكرين والباحثين، استنطق فيه همم الباحثين، ومسؤولية المتخصصين، وخبرات المهتمين لهذا الخطر العالمي الذي يعد عبر تأريخ القرون، وفي كل الديانات أخطر الظواهر الفكرية والسياسية والاجتماعية، لأنه يحمل في صورته وأبعاده وآثاره وتداعياته أخطارًا عظيمة متراكمة، ومفاسد لا تعد ولا تحصى، أصدق تعبير عن وصف هذه الآثار قول الله عز وجل وهو أصدق القائلين: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد)، حيث إنه لا يقتصر على قناعات ومبادئ، وإنما يتصل تأثير هذا الفكر بالسلوك فتكون مخرجاته عنفًا وهمجية وإرهابًا وتطرفًا، وهذا الفكر وإن كان قديمًا متجذرًا في كل ديانة، إلا أن معالجته بصورة شمولية أمر في غاية الأهمية، خصوصًا في الوقت الحرج من تأريخ الأمة الإسلامية، وتأتي الأهمية البالغة لمناقشة الفكر التكفيري وظاهرة التكفير من عدة اعتبارات، لعل أبرزها: 1- تجدد هذا الفكر في أساليبه وشبهاته وطرقه وجماعاته، وتكيفهم مع ظروف الوقت، فالفكر الخارجي ظهرت نابتته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر في عهد الخلفاء الراشدين، وبدأ يظهر تارة ويخبو تارة، حتى هذا العصر، ومن يتأمل واقع هذه الجماعات التي تتبنى الأفكار والمبادئ يجد أنها تتجدد في الأساليب والطرق لكنها تصل بجذور الفكر إلى الخوارج الأوائل. 2- ظهوره بمظهر التدين والغيرة على الدين ونصرة المسلمين، وهذا ما يعقد المشكلة، ويوسع دائرة التعاطف مع حملته. 3- أنه أساس كل الانحرافات، إذ ينتج عنه: * استباحة الدماء. * استباحة الأموال. * الجرأة على الدول والحكومات. * إصدار الأحكام جزافًا، وعدم الاعتراف بالعلماء ومكانتهم. * التصدر وانتهاك الحرمات. * مظاهر العنف والتطرف والإرهاب وغيرها من الانحرافات. 4- ظهوره على الملأ بصورة العمل البسيط، بينما هو جهد تقف وراءه منظمات وجماعات، بل وربما دول، وتتذرع به للوصول إلى مآربها وأهدافها. 5- ما تتسم به الشخصية التكفيرية من ضيق أفق، ونظرة متشددة، وإقضاء للآخرين، وتوهم للكمال. هذا من حيث الخطر، ومن حيث التوقيت لهذا المؤتمر فيأتي قرب زمن كان منطلقًا لأحداث إرهابية، أحدثت أثرًا عظيمًا في واقع العالم اليوم، وشوهت صورة الإسلام فيما يسمى بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ يعقد المؤتمر في الذكرى الحادية عشرة، وفي العشرين من سبتمبر، كما أنه يتزامن مع محاكمة مجموعة من حملة الفكر التكفيري والمتورطين فيه، أقول: إن هذا الخطاب الملكي الذي عدّه المشاركون في المؤتمر رؤية سديدة، ومنهجًا رشيدًا في التعامل مع هذه الظاهرة، بل وأوصوا باعتباره وثيقة مهمة من وثائق المؤتمر، ينطلقون في توصياتهم ونتائج أبحاثهم مما حواه من مضامين مهمة، ودلالات واضحة، لأنه حمل في طياته معاني سامية، ورؤى سديدة، ومعالم مهمة في هذا الشأن الخطير، يوقفنا الخطاب على مدى ما يحمله ولاة أمر هذا البلد المقدس، والوطن الآمن المملكة العربية السعودية من همٍّ تجاه القضايا العالمية، والمخاطر التي تستهدف الإسلام والمسلمين، ويدرك المتأمل في جزئياته ومضامينه أهداف القيادة الحكيمة في مثل هذه الأساليب العلمية لاستهداف البنى التحتية لخطاب التطرف والغلو والإرهاب، التي تعد كلها ثمارًا خبيثة من نتاج فكر التكفير، وما يعولونه على المشاركين الذين يمثلون نخبًا متخصصة من المملكة العربية السعودية ومن دول عالمية، ينتمون إلى تخصصات علمية دقيقة ينطلقون منها لتشخيص هذه المشكلة ومعرفة مسبباتها وآثارها ومعالجاتها لتلتقي تلك الرؤى على إستراتيجيات تفيد منها مجموعة الدول، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. ولذا أرى أن من مسؤوليتي وواجبي أن أبرز هذه المضامين المهمة، والدلالات الكبيرة، وقد شرفني ولاة أمري -حفظهم الله- بالمشاركة في هذا المؤتمر بدءًا من خطواته الأولى، حينما جاءت الموافقة السامية على إقامته بشراكة هذه الجامعة العريقة، والمؤسسة العلمية الشرعية الوطنية العالمية التي لاشك أنها أثرت هذا المؤتمر باعتباره امتدادًا لرسالتها وأهدافها ودورها الريادي في الإطار الوطني والإقليمي والعالمي، وباعتباره دورًا وطنيًا من أدوارها سعت الجامعة لتحقيق أهداف المقام السامي في هذه الموافقة التي تعدها توجيهًا وتشريفًا وتكليفًا، تتحمل الجامعة بمسؤوليها ومنسوبيها المسؤولية عنه أمام الله ثم أمام ولاة الأمر -أيدهم الله-، وشاركت الجامعة بأبرز اللجان العاملة فيه، وعلى رأسها اللجنة العلمية التي تعد عصب هذا المؤتمر، ومحركه الفاعل. ثم يتم عقد هذا التشريف لي شخصيًا بالإسهام فيه عبر لجنته الإشرافية العليا، وذلك بعضويتها والنيابة عن معالي رئيسها الدكتور ساعد بن خضر العرابي الحارثي، مستشار سمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية -حفظه الله-، وأول ما يلفت الانتباه في الخطاب الملكي الاستهلال بمخاطبة المشاركين في المؤتمر من العلماء والمفكرين بالتأكيد على خطورة هذه الظاهرة، تلك الخطورة التي لا يزايد عليها أحد، وتستمد دلالاتها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقول العلماء الذين كما قال المليك -يحفظه الله-: "لم يتركوا في هذا زيادة لمستزيد، ولا ثغرة لمستدرك، وهم الذين نفوا عن كتاب الله تحريف الغالين وتأويل الجاهلين". ولو لم يكن في التأكيد على هذه الخطورة وتأكيدها إلا قول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وسبب نزول هذه الآية كما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرَن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال: "ادعوا لي المقداد. يا مقداد، أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ "، فأنزل الله هذه الآية، ورويت هذه القصة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما. يقول الإمام الطبري رحمه الله على هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله، ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرًا لكم أنه من أهل ملتكم ودَعوتكم لست مؤمنًا، فتقتلوه ابتغاء متاعِ الحياة الدنيا". وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكفي زاجرًا وواعظًا من التعجل وإطلاق هذا الوصف على من لا يستحقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما». وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة درسًا عمليًا في التعامل بالظاهر، وترك محاكمة الناس إلى نياتهم ومقاصدهم في تعامله مع المنافقين، وهذا كله يبين بجلاء أهمية حفظ اللسان عن الوقوع في هذا المزلق الخطير، ووجوب تغليب الاحتياط وحقن الدماء، والبعد عن إطلاق الأوصاف جزافًا، وهذا ما استشعره خادم الحرمين الشريفين، راعي المؤتمر -أيده الله- وهو يخاطب العلماء والباحثين بأن ينطلقوا في المعالجة من هذا الأس الراسخ، والأصل المتين، ولذا كانت قضية المؤتمر قضية ملحة تمس الحاجة بل الضرورة إلى استجلاء المنهج العلمي للبحث عن مسبباتها وأبعادها وآثارها، والتوصل إلى الحلول الناجعة لها. ثم تأتي الإشارة المهمة في الخطاب الملكي إلى بُعد مهم في المسألة، استدعى البحث والاستقصاء، والإحاطة بجوانب المسألة، حيث إن المنطلقات الفكرية، والأسباب العقدية لظاهرة التكفير لابد من التصدي لها بعلم وروية وبصيرة، وحكمة وقدرة حوارية، لأن من يطلقها يتكئون على استدلالات، ولا يعني هذا أنهم أهل علم، «فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل علم يكون له فتنة»، فهم على افتراض حسن النوايا أتوا من قِبل أنفسهم، وحاق بهم ما ظنوه سببًا لتصدرهم، لأن علمهم لما لم يكن مبنيًا على بصيرة وفهم سليم، وإدراك لمقاصد الشريعة وقواعدها، وما قاله الراسخون وقعوا في الفتنة، (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا)، والله تعالى بيّن في كتابه أن من زاغ قلبه فإنه يتبع المتشابه بسبب إعجابهم بأنفسهم، واتباعهم لأهوائهم، (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ)، (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ)، وهم بهذا الصنيع -أقصد منظري الفكر التكفيري ودعاته- قد فتنوا أنفسهم وانحرفوا عن جادة الصواب، وأصبحوا فتنة لغيرهم، خصوصًا من الشباب ضعيفي العلم قليلي التجربة، ويخشى عليهم من قول الله تعالى: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون). ويلفت خادم الحرمين الشريفين انتباه المخاطبين إلى بعدين متضادين، فالبعد الأول وهو الإيجابي: سر قبول هذا الدين وانتشار رحمته وهدايته، وبلوغه الآفاق، والتعايش مع أهله، إنه الوسطية والاعتدال والسماحة واليسر ورفع الحرج، والسلام والأمان، فهو دين السلام والرحمة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)، والناس جميعًا مخاطبون بالدخول في السلم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)، فهي دعوة من الله للمؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة، وحذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ لأنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان: إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان، مع ملاحظة أن اتباع الدعوة إلى الدخول في السلم يعني النهي عن اتباع خطوات الشيطان، يعني أن عكس السلم التي هي الحرب هي من إيعاز الشيطان. وقال مخاطبًا المسلمين في علاقتهم مع الآخرين: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)، أي: وإن مالوا إلى مسالمتك وترك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوك. وفيه توجيه عام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بأنه إن مال الأعداء عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافًا للمعهود منهم في حال قوتهم، فما على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلا الجنوح كذلك للسلم لأن المسلمين أولى به من غيرهم. ويكفي لإبراز أهمية السلم في الإسلام أن نعرف أن لفظ "الإسلام" نفسه مشتق منه، إذ هو يعني الانقياد والاستسلام لله تعالى، ثم إنه عز وجل يدعو إلى دار السلام: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم)، والمقصود دار الأمن والاستقرار والطمأنينة، وأعظم الأمن في الجنة. أما البعد الآخر وهو البعد السلبي، فهو نتاج منظري فكر التطرف والغلو، الذين "تقولوا على شرع الله بالكذب أو التأويل أو التكلف" كما قال -يحفظه الله-، فالغلو "هو مدخل ضلال الناس، وخروجهم عن الإطار الشرعي والمحكم لدين الله الذي استقر بحمد الله في قلوب العالمين علمًا وإدراكًا". فآثار التطرف والغلو كثيرة كبيرة، أعظمها التأثير في أوساط المجتمعات الإنسانية بتشويه صورة الإسلام، وتجرئة أعداء الإسلام عليه، وخدمتهم بهذه الأعمال الشيطانية. وتمتد آثار فكر التكفير ونتاج الغلو إلى التخريب والتدمير والاعتداء على الأنفس البريئة بهذه التأويلات الباطلة، وأعظم بفكر ومنهج يصل بصاحبه إلى الاستهانة بحرمة الأنفس المعصومة، واستحلال الدماء، والاعتداء والظلم، وهذا ما أبانه خادم الحرمين الشريفين مستدلاً بنصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل، من مثل قوله عز وجل: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا )، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة». ثم يقول يحفظه الله: " ولا يشك مسلم أدرك حقيقة الإسلام أن الاعتداء على النفوس البريئة بالتأويلات الفاسدة يتحقق في قول رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»". الله أكبر!، إن المسلم عمومًا، والمواطن خصوصًا ليشعر بالفخار والاعتزاز وهو يقرأ كلامًا متينًا رصينًا مؤصلاً، من خادم الحرمين الشريفين -أيده الله-، يدرك به تأكيد الحقيقة التي لا مساومة عليها، ألا وهي تمسك ولاة أمرنا بهذا الدين، وانطلاقهم في توجيهاتهم وأقوالهم وأفعالهم من نصوص الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، والحق ان آثار الغلو والتكفير خطيرة وكثيرة، فالغلو يحمل على الخروج على ولي أمر المسلمين، وشق عصا الطاعة، وتفريق كلمة المسلمين، كما حصل ويحصل من الخوارج على مدار التاريخ، والغلو يسبب الانقطاع عن الأعمال الصالحة، وقد يحمل على الزيغ والانسلاخ من الدين، فإن النفس تضعف مع شدة العمل، وقد تعجز أو تمل من العمل فتتركه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن الغالي في الدين: «كالمنبت لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع». والأمر خطير، والخطب جلل، ولكن المعول عليه أن يكون هناك جهد مضاد لمثل هذه الأفكار والضلالات، ولذا فإن الأساليب العلمية عليها معول -بعد الله- في دفع شبه هذه المناهج والأفكار، وهذا هو هدف المؤتمر كما أبان عنه خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- حينما قال: "إن ما نطرحه في هذا الشأن هو بيان وتبرئة لفكرنا الإسلامي الأصيل، واعتدال منهجه وسمو مقصده، ويكفي أن من لا يدين بدين الإسلام بوسطيته واعتداله قد اكتوى بأدوات التطرف لديه، وهي المحسوبة على فكره ومنهجه، فالتطرف لا وطن له ولا دين، ونحن نؤكد من وحي شرعنا العظيم، أن دين الله الوسطية بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو معنى قول الحق سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»". وكما هو هدف المؤتمر فإن الواقع يشهد بأن الدين الإسلامي بأحكامه وخصائصه وقواعده ومقاصده لا يمكن أن يكون مستندًا لأصحاب هذه الأفكار، فالمتطرف والغالي إنما يمثل نفسه، والإرهاب عالمي لا وطن له. كما أن المجازفة بالأحكام وإطلاق الأوصاف غلو يظهر في كل ديانة وملة، ومن أبرز معالجاته ما تضمنه الشارع الحكيم من السمات والخصائص والميزات، التي ورد جملة منها في الخطاب الملكي، حينما قال -أيده الله-: "لقد أرسل الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً، وبعثه بالحنيفية السمحة، وبالرحابة والسعة، وبمكارم الأخلاق، والعفو والصفح والرحمة بالناس، وإحسان الظن بهم حتى قال بعض السلف: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد له في الخير محملاً"، فكيف إذا ارتد السوء إلا التفسيق ثم التكفير، وعلى أثره القتل والتدمير وهي حلقات متصلة يجر بعضها بعضًا". ثم يؤكد خادم الحرمين الشريفين على دور العلماء المبينين لحكم الشرع في إطلاق أوصاف أقل من التكفير فكيف بالتكفير، حيث إنه حكم شرعي في منتهى الخطورة، وهو جدير بالمراجعة، ومن أبرز الحصانات الشرعية التي تمنع من التجاسر عليه ما أبانه العلماء في مسائل التكفير من ضوابط وموانع تحقق الردع والزجر عن إطلاق هذه الأوصاف من غير أهلها ودون مراعاة لهذه الضوابط التي يعنى بها العلماء والقضاة. ولتأكيد خطر التكفير وأثره على الأمة الإسلامية خصوصًا، وعلى العالم تأتي تلك اللفتة من خادم الحرمين الشريفين لتؤكد أن هذا الوطن المقدس والدولة التي تحكم بشرع الله لم تسلم من هذا الفكر، وعانت كما عانى العالم من هذه المجازفات المتطرفة، والأفكار الضالة، ومرت أحداث دامية مؤلمة، وجه فيها أبناء هذا الوطن سلاحهم وقوتهم ضد وطنهم، وعادوه، بل أفسدوا ودمروا وخربوا، وهذا ما لم يكن يتوقع أن نعادى من قبل أبنائنا، ونؤتى من مأمننا، لكنها حكمة الله عز وجل وأقداره التي لا راد لها، ولعل من حكمها أن تكون هذه المراجعة والمعالجة التأصيلية لتجتث جذور هذا الفكر وأخطاره وتداعياته، ورغم مرارة الأسى، وقوة الوطأة، وثقل الأمر إلا أن خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- يفصح عن المنهج الحكيم المتوازن الذي تعاملت به المملكة العربية السعودية مع حملة هذا الفكر ومنظريه، فلم تقتصر على الحل الأمني الذي لابد منه لتحقيق الطمأنينة والاستقرار والأمان، وإنما انتهجت منهج سلف الأمة في الحوار والمناظرة والمناصحة إقامة للحجة وإعذارًا إلى الله، ومتى تحقق رجوع أحد منهم فإن ذلك من المكاسب العظيمة التي يعبر خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- عن شعوره وشعور كل مسؤول ومواطن عنها فيقول: " ولن نفرح في هذا بشيء، كما نفرح بهداية من ضلّ إلى سواء السبيل، وهو منهجنا مع كل موقوف على ذمة هذه القضايا، ومن جانب الصراط السوي، وكابر الحق ورده فمرده إلى الشرع المطهر الذي نعتز بتحكيمه والاهتداء بهديه"، فالرجوع عن هذا الفكر يمثل سرورًا بالغًا، مبعثه أن هذا المواطن عاد إلى رشده، وانضم إلى رحمة الجماعة والإمامة، ومن استمر على غيه فلا بد أن يأخذ جزاءه الذي يقرره القضاء الشرعي، وهذا ما يقضيه حكم الشرع المطهر. ثم بين -أيده الله- أن هذه المناصحة الحوارية إنما هدفها تحقيق منهج الوسطية والاعتدال، وأن أي تطرف حتى في الجانب الآخر الذي ينال من الثوابت التي قام عليها المجتمع هو الآخر منبوذ، في لفتة رائعة مهمة، تؤكد أن معالجة الفكر المتطرف، وصور العنف لا تعني التسامح مع من ينهجون التطرف في طرفه الآخر، وربما يمررون ما يعد خروجًا عن ثوابت هذه البلاد، فهؤلاء لاشك أنهم مرفوضون من المجتمع، لأنه كما قال -أيده الله-: "وحسبنا أن مجتمعنا الإسلامي ينبذ بفطرته السليمة الأفكار الضالة والأساليب المتطرفة، ولن نقبل بأي فكر ينال من ثوابتنا التي انعقد عليها وجدان كل مواطن فينا، ولن نصادر أحداً في حرية فكره ما دام في إطاره المعتدل وعليه فلن نرضى المساس بقيمنا الراسخة ومحاولة تغيير وجداننا الوطني المتآلف على فطرته السوية ونهجه الوسطي المعتدل من قبل أي إنسان فهذا هو دستورنا، وهذه عقيدتنا وسنكون مع غيرنا أرحب من غيرنا بنا والأيام دلائل وشواهد على أقوالنا وأفعالنا"، فالدولة دولة العقيدة والدين، قامت عليه وستظل كذلك، لأن هذا هو سر العز والتمكين والاستخلاف، مصداقًا لقول الله عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون)، وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وهذه اللفتة من خادم الحرمين الشريفين هي رسالة إلى المؤتمر أن الطرح العلمي والمنهج الوسط لابد أن يعتمد محاربة التطرف في كل شأن، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، على حد قول الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). وأخيرًا يأتي التأكيد من خادم الحرمين الشريفين أن هذه المواجهة مستمرة، وأن ما يتمخض عنه المؤتمر من نتائج ستكون معينة على امتداد المواجهة، فهذا هم ومسؤولية يراها -أيده الله- من أبرز المسؤوليات، كيف لا والخطر على الدين والوطن وأمنه واستقراره يكون من هذا الفكر بالدرجة الأولى، ولذا لا غرو أن يلتزم -يحفظه الله- مكافحة ومواجهة هذا التطرف بقوله: " ولن يهدأ لنا بال حتى يستقيم على الطريقة، أو نستأصله من أرضنا الطاهرة، فلا مكان بيننا لهذا العنصر الدخيل"، ويقول: " وسيكون كل متسبب في فتح أبواب التيه المهلك على محك السؤال والحساب دنيا ودين، والله حسيب وطليب كل ضال مضل، وفاسد مفسد، وسنواصل بعون الله ملاحقة فئة الضلال والفساد، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، ونحن نقول كمواطنين شرفنا الله بالانتماء إلى هذا الوطن، ويقوله كل مسلم محب للسلم والأمن: سر يا خادم الحرمين الشريفين ترعاك عناية الله، ويؤيدك الله بتأييده، ونحن جنودك وكل الوطن في أرجائه يقف معك ضد هذه الفئة الضالة المعتدية التي لا يردعها عقل ولا دين. وبعد: فإن هذا الخطاب المهم يحمل دلالات كثيرة غير ما ذكرنا من المضامين، وأهمها: 1- أن هذه المضامين الشرعية التي جاءت في لحظات تؤكد أعظم نعمة نعيشها بعد نعمة الإسلام والأمن والاطمئنان، إنها نعمة القيادة الحكيمة، فقائدنا خادم الحرمين الشريفين يرسم لنا ما كان الخلفاء الراشدون يفعلون من حمل هم الإسلام وخدمة قضايا المسلمين، وتحمل الأمانة والمسؤولية، وإن أمة يقودها من يخاف الله ويخشاه، ويحمل همّ هذه الأمانة الملقاة على عاتقه لأمة مرحومة، جديرة بكل مقومات التمكين والعز، لأن مثل هذه الصراحة الشديدة من جلالته -أيده الله- دليل إخلاص ومحبة للأمة والوطن، وتفاعل مع القضايا، وهي من وجه آخر تستثير في نفس كل مسلم ومواطن أن يقابل هذا الإخلاص بإخلاص أشد، ووفاء أعظم، وسريرة نقية، وتعامل صادق ناصح، ينطلق فيه من المعنى الجامع الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله فيه، حينما قال: «الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «للهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُوْلِهِ وَأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ وَعَامَّتِهِمْ»، وحينما نكون بهذه الصورة المثالية فنحن أحرى بالوصف الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال : «خِيَاُر أَئِمَّتِكُمْ الذِيْنَ تُحِبُّوْنَهُمْ وَيُحِبُّوْنَكُمْ وَيُصَلُّوْنَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّوْنَ عَلَيْهِمْ». ومن الدلالات: التأكيد على الوسطية كمطلب أساس، وعلاج أكيد لكل ظواهر الغلو والتطرف في جانبيه، وهذا تأكيد لما قامت عليه هذه البلاد من تطبيق شرع الله الذي هو رأس المطالب وأهمها، إذ لا يمكن أن يقام الدين، وتنشأ الحضارات، ويقوم الناس بمصالحهم إلا في ظل الاستقرار الذي أساسه التوحيد، ونبذ كل طريق يوصل إلى الشرك، كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون)، وقد تضمن خطاب المليك المفدى ما يفيد تعاهد هذا الأصل الأصيل، والثبات عليه، والاستمرار على العهد الذي قام به الأجداد، وهذا الثبات والاستمرارية يشكلان ضمانًا مستقبليًا يأمن به المسلم من الشرور والفتن والفرقة والاختلاف. - ومن الدلالات المهمة: التأكيد على جانب رئيس وهام في حياة المواطن السعودي، ألا وهو: الحرية المسؤولة، وما أجمله من تعبير، فليست حرية الفوضى التي تتولد في ظلها الانحرافات الفكرية والعقدية، ولا الحرية التي لا تنضبط بميزان الشرع والعقل، ومن ثم تصبح عبودية باطلة للأهواء والشهوات، وإنما هي حرية حقة تنبع من استشعار المسؤولية أمام الله ثم أمام المجتمع، وتغلب المصالح العليا، وتنطلق من أساس راسخ متين، مبني على العبودية الحقة لرب العالمين، وحينئذٍ تكون هذه الحرية إيجابية، تحقق للمرء السعادة والطمأنينة، وتجعل منه رقيبًا على تصرفاته. إن هذه اللفتة الكريمة من خادم الحرمين الشريفين تعبير عمَّا يفكر فيه المواطن وتنبيه على المسؤولية التي يتحملها، وتفعيل للمشاركة الاجتماعية التي تؤسس على الترابط والتكاتف والتعاون، والمحبة الصادقة، والشعور بالواجب تجاه مكتسبات هذا الوطن الروحية والمادية. وبعد: فهذه كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك الإنسان، والقائد الفذ، والإمام المصلح، والولي العادل، الذي حدد في هذا الخطاب الملكي هدف القيادة من هذا المؤتمر، وما تتطلع إليه من النخب التي أسهمت بمعارفها وخبراتها، لتؤطر المعالجة بالمنهجية العلمية المؤثرة في هذا الفكر، المحققة لانحساره وانعدامه بإذن الله. وحقًا إنها كلمات من القلب نفذت، وإلى كل القلوب وصلت، ويقيني أن كل من حضر واستمع إلى الخطاب يستشعر ما يستقبله من مسؤولية تجاه هذه الظاهرة الخطيرة، والفكر النشاز، فحييت يا خادم الحرمين الشريفين وسدد الله خطاك، وبارك الله مسعاك، وحماك الله من كل سوء ومكروه. ويشرفني وقد انتهت جلسات المؤتمر وفعالياته أن أنقل إلى خادم الحرمين الشريفين أثر هذه التوجيهات، وأنها قد تجسدت فيما انتهى إليه من توصيات ونتائج، ولذا فقد سجل المؤتمر نجاحًا متميزًا، وخلص إلى توصيات غاية في الأهمية تؤسس لاستراتيجيات في مكافحة هذا الفكر، فالحمد لله على فضله، وهنيئًا لنا بإمامنا وولي أمرنا، وهنيئًا له بهذا الإنجاز الذي يضاف إلى سجله في خدمة الإسلام وقضايا المسلمين، وأسمى التبريكات، وأصدق التهاني بهذا النجاح المتميز. والله أسأل أن يديم علينا أمننا وإيماننا، وولاة أمرنا، وأن يوفقهم إلى كل خير، ويحميهم من كل سوء ومكروه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، ، * مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رئيس المجلس التنفيذي لاتحاد جامعات العالم الإسلامي