لعل من الطبيعي القول ووفق التسلسل المنطقي أن المسؤول الأول عن تفجر الأوضاع السياسية والأمنية في أكثر من بلد عربي هو غياب المواطن، وبما يحمل هذا المفهوم من حمولة قانونية وحقوقية.. فالمجتمعات العربية التي تفجرت فيها الأوضاع على نحو غير مسبوق، هي المجتمعات، التي يغيب فيها مفهوم وحقائق المواطن، أو يتم الانتقاص اليومي من حقوقه وامتهان كرامته.. فأبناء المجتمع وفق الرؤية القانونية والحقوقية، ليسوا سديما بشريا، وإنما هم كيان اجتماعي متضامن ومتكامل وفق رؤية أو منظومة قانونية وحقوقية متكاملة.. وإن استمرار هذا الكيان يعود إلى استمرار هذه المنظومة القانونية التي تعطي لنمط العلاقة القائم بين مجموع أفراد المجتمع صفة مواطن بكل مضمونها الحقوقي على المستويين المعنوي والمادي. وإن الإنسان حينما يفقد هذه الصفة أو الحقيقة، فهو يخسر كل شيء، ويصبح ريشة في مهب الريح.. فحينما يفقد ابن المجتمع والوطن، صفة وحقيقة أنه مواطن، فهو يفقد في حقيقة الأمر كل شيء، وحينما يفقد الإنسان كل شيء فهو يعمل على مخاصمة واقعه ومعاندة الأسباب التي أوصلته إلى هذا الحضيض.. وحينما تكون هذه العملية (أي عملية افتقاد الإنسان صفة أنه مواطن) عامة ويشعر بها غالبية الشعب، فإن موجبات الفعل المعارض والمطالب بتغيير كل المعادلات القائمة هي الحاكمة والمسيطرة. إن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.. وأعتقد أن الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع تطالب بحقوقها، وتعمل بوسائلها السلمية والحضارية لرفع الظلم والحيف عنها، هي شعوب عانت إما من غياب حالة المواطنة في علاقتها وحقوقها مع مؤسسات الدولة، أو كانت تعاني بشكل يومي من انتقاص حقوقها وامتهان كرامتها، وأنه لا نصيب حقيقيا لها من قيمة المواطنة.. لهذا فهي تتحرك في الشارع وتطالب بإصلاح أوضاعها، لكي تعود إلى مواطنتها، وحتى تنتقل من حالة السديم البشري إلى الكيان الاجتماعي المسيج بحقوق وواجبات المواطنة. من هنا فإن الشعوب العربية التي خرجت في بعض الدول العربية بالملايين للمطالبة بحقوقها وكرامتها، فهي لم تخرج من أجل تدمير اقتصاد بلدها، ولم تخرج من أجل الاقتتال الداخلي بين مكوناتها وتعبيراتها، ولم تطالب بحقوقها من أجل إفشال دولتها أو لتوفير المناخ الإقليمي والدولي لمضاعفة الضغوط على دولتها، وإنما خرجت لكي تقبض على حقيقة المواطنة التي انتزعت منها، وتطالب بحقوقها من أجل أن تكون العلاقة بين كل الشعب ودولته قائمة على المواطنة المرتكزة على منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، وتحرك الشعب وقدم التضحيات الجسام من أجل ألا تستمر علاقة الاستزلام، لأنها علاقة تدمر الأوطان والمجتمعات. وعليه فإن المجتمع الذي تتوفر فيها كل حقائق ومتطلبات المواطنة، فهو يعيش الاستقرار العميق، ويشعر بانسجام كامل في خياراته بينه وبين الدولة التي ينتمي إليها. أما المجتمع الذي لم تتوفر فيه لأي سبب من الأسباب حقائق ومتطلبات المواطنة، فإنه يعيش القلق والاضطراب وتتراكم فيه عناصر ومقتضيات الفجوة بينه وبين الدولة بكل مؤسساتها وهياكلها. لهذا فإن طريق الاستقرار الحقيقي والعميق لكل مجتمعاتنا ودولنا، هو الذي يمر عبر تحقيق وإنجاز مفهوم المواطنة، في نمط العلاقة، وفي تحديد منظومة الحقوق والواجبات.. ودون ذلك ستبقى الأمور معرضة للاهتزاز والاضطراب.. وإن انجاز مفهوم المواطنة هو الذي يعطي الهيبة والعزة للدولة، بدون اضطرار لاستخدم آليات القهر والقمع. وحينما ينجز مفهوم المواطن، تتمكن مجتمعاتنا من إنجاز وتحقيق مجتمع المواطنين، الذي يحترم كل الخصوصيات الفرعية، دون أن يوصله هذا الاحترام إلى الانغلاق والانكفاء والانحباس.. وحينما تكون العلاقة بين المجموعات البشرية التي يتشكل منها المجتمع، قائمة ومستندة إلى مفهوم المواطنة دون افتئات على دوائر الانتماء الأخرى، حينذاك نستطيع القول ان هذا المجتمع تمكن من التغلب وقهر كل نقاط ضعفه الداخلية، وأنه خطا الخطوة الأولى في مشروع بناء تقدمه وازدهاره على أسس صلبة ومتينة. وعلى هذا الأساس كما يقرر المفكر الفرنسي (جورج بوردو) تفترق الديمقراطية المحكومة عن الديمقراطية الحاكمة.. الأولى قائمة على أساس شعب من المواطنين فتكون غايتها أن تحكمه حكما مناسبا للمجتمع القائم فعلا بصرف النظر عما يريده الشعب الحقيقي.. أما الديمقراطية القائمة على أساس الشعب الحقيقي فتكون غايتها خلق عالم جديد.. عالم متحرر بديل عن الواقع تشبع فيه الاحتياجات الفعلية للشعب.. ديمقراطية تكون القرارات فيها خاضعة لتلك الاحتياجات.. لهذا فإننا نرى أن الأولوية في كل بلدان العالم العربي في هذه اللحظة الزمنية، هي في بناء المواطنة، بحيث تكون هي أساس الحقوق والواجبات. فهي خط الدفاع وهي مصدر الاستقرار الحقيقي في كل المجتمعات والأوطان، وبدونها لن تتمكن كل الأسلحة العسكرية من حماية الأمن والاستقرار.. وإن مفارقات المواطنة في واقعنا العربي العام كالاستبداد والتعصب والتطرف، هي المسؤولة بشكل أو بآخر عن الأوضاع الحالية التي يعيشها العرب وتشهدها العديد من الدول العربية.. ولا خيار أمامنا إذا أردنا الأمن والاستقرار إلا الالتزام بمقتضيات المواطنة، وصيانة كل الحقوق المترتبة على ذلك.. فإعادة الاعتبار إلى إنساننا، عبر الاعتراف بمواطنيته الكاملة بدون نقيصة، هي البداية الحقيقية لإصلاح الأوضاع في العالم العربي. وإن بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع والوطن الواحد، على أسس المساواة والعدالة، هو الذي يساهم بشكل كبير في ضبط الاختلافات والتباينات، وفي جعل الحوار والتواصل متجها صوب القضايا الحيوية والنوعية. وإن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.. وإن المواطنة بقيمها وحقوقها وواجباتها ومسؤولياتها، هي حجر الأساس لتطوير الأوضاع السياسية والقانونية وتجديد الحياة السياسية والثقافية، وتنمية مقومات وعوامل السلم الاجتماعي وتعزيز الوحدة الداخلية. ومن الضروري في هذا السياق، أن نولي جميعا اهتماما فائقا بنظام العلاقات والتواصل بين مكونات المجتمع، والعمل على تنقيته من كل عناصر الإقصاء والتهميش وسوء الظن وغياب أشكال الاحترام المتبادل.. فالمجتمع القادر على بناء مواطنة حقيقية، هو ذلك المجتمع الذي يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر، ويتحلون بقيم التسامح واحترام التعدد والتنوع وحقوق الإنسان، ويعملون معا لتوطيد أركان الفهم والتفاهم، والتلاقي والتعاون، والأمن والاستقرار.