لقد انزل الله الشرائع منظماً بها علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره من المخلوقين وكانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الخالدة الى ان يرث الله الأرض ومن عليها لأنها صالحة لكل زمان ومكان. وقد عنيت هذه الشريعة بتنظيم مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولم تدع مشكلة من المشكلات التي يمكن حدوثها الا ووضعت لها العلاج الناجع الذي يحقق مصلحة الفرد والمجتمع قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتمتت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} «المائدة 3». ومما اهتم به الفقهاء وعنوا به ايما عناية الزواج واحكامه وذلك لأن الزواج اساس الاسرة ودعامتها والقاعدة التي تقوم عليها بناء المجتمع والاسرة هي اللبنة الاولى في بناء الامة وعلى قدرما تكون اللبنات قوية متينة يكون البناء قوياً راسخاً منيعاً وعلى العكس من ذلك ان كانت اللبنات واهية ضعيفة يكون البناء ضعيفاً قابلاً للتصدع والانهيار ولا عجب ان يحظى الزواج بهذه العناية وهذا الاهتمام فقد كان فطرة قبل ان يكون شرعه فهو فطرة اودعها الله الخلق يوم خلقه: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}. والانسان اشرف من خلق الله اشتمل على نفس التكوين ذكر وانِثى وفطر كل شطر بالميل الى الشطر الآخر ليكون التزاوج ولتكون الحياة وعندما خلق الله آدم لم يتركه وحده حتى وهو في الجنة بل جعل منه ومعه حواء واسكنهما سوياً الجنة: {وقلنا ياآدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين} «البقرة 35». وبقيت هذه الآية وبقي الله علينا نعمه ومننه يذكرنا بها صفتها آية ينبغي ان نلتفت اليها لندرك قدرة الله ويذكرنا بها تذكرة تردنا الى اصلنا وتردنا الى الايمان ويعددها في مجال تعداد النعم والآيات ويجعلها اساساً لمطالبتنا بالتقوى. قال الله تعالى: {ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيت لقوم يتفكرون} «الروم 21»: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} «النساء1». وتتجلى أهمية النكاح وثمرته في انه يحقق مصلحة المرأة والرجل ويحفظ النوع الانساني ويحصل به تحقيق حماية الشرف ومنع ابتذال الجنس كما انه يؤدي الى حفظ الصحة ويتم به تحقيق سرور النفس، ويحقق المقاصد النبيلة التي وضع لأجلها فإن الاتصال المشروع بالمرأة وضع ابتداء لثلاثة امور هي مقاصده الاصلية احدها حفظ النسل ودوام النوع الانساني على وجه البسيطة حتى يرث الله الارض ومن عليها الامر الثاني اخراج الماء الذي قد يضر بالبدن الامر الثالث قضاء الوطر والتمتع بالنعمة وهو يؤدي الى غض البصر وكف النفس ويعفه عن الحرام وهذه امور مشتركة بين الرجل والمرأة. والنكاح محقق لمصالح الامة فلو لم تأت الشريعة الغراء بالحث عليه لكانت الفطرة السليمة وقواعد السلوك العامة لا تقتضي سواه وهو بعد ذلك مصدر سعادة للطرفين لأن فيه سكناً وفي السكن طمأنينة وفي السكن راحة وفي السكن سكون للنفس ولأن فيه مودة والمودة تولد المحبة وتبقي ان غابت المحبة حيناً او فترت تبقي فيها المجاملة وفيها حسن العشرة وهي ابقى لرابطة الزوجية من العواطف الهوج التي تمضي سريعاً كما تمضي الرياح الهوج ولأن فيه رحمة والرحمة عاطفة من اسمى العواطف وادومها وخلق يتخلق به المسلم يقتبس فيه من رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما وهي بين الزوجين بلسم لكل جرح ودواء لكل ما يستعصي من مشكلات انه الشيء الذي يبقى ان نضبت سائر العواطف او خفت ليطبق معه قول الله تعالى: {فإن كرهمتوهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} «النساء 19». ولقد كانت عناية الشريعة الإسلامية بالزواج اكبر واوسع من اي شريعة اخرى اذ جعله الله سبحانه وتعالى من آياته في خلقه وعده من نعمه على عباده وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} «الروم21». وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم الزوج ان يجتهد في حسن اختيار الزوجة فقال: (تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء) وبين ما يحل نكاحه من النساء وما يحرم واحاط عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تكفل سعادة الزوجين وتأتي بالخير لأسرتيهما واوجب فيه مهراً جعله من حق الزوجة وجعل لها شخصية كاملة بالنسبة لما لها في الملكية والتعامل والتصرف وحرم على الزوج ان يأخذ منه شيئاً الا بحقه وطريقه المشروع وجعل لكل منهما حقوقاً نحو الآخر وواجبات يؤديها له.. وطالبهما بحسن العشرة والعدل في المعاملة والتعاون على الحياة المشتركة بينهما ورسم الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات وشرع الطلاق للخلاص حين تستعصي على الزوجين اقامة حدود الله والوقوف على ما رسمه الشرع للسير في العلاقة الزوجية. ولسنا بصدد الحديث عن الزواج واحكامه وتفصيلاته وانما الذي يعنينا هنا بيان مدى حق المرأة في اختيار الزوج وما منحته الشريعة المطهرة لها من حرية الاختيار وما للولي من توجيه وارشاد وانه لا يملك حق الالزام ولاجبار وانما حقه في ولاية العقد بالايجاب متى كان الزوج كفؤاً فعن ابن عباس رضي الله عنهما: ان جارية بكراً اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ان اباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان زواج الاب مع عدم الرضا معتبراً لما خيرها الرسول عليه السلام إذ التخيير حينئذ لا فائدة له ومثل ذلك يتنزه عنه كلام الرسول عليه السلام فدل ذلك على أنه لابد في زواج البكر من الرضا فلا حق للولي بإلزامها بزواج لا ترتضيه، ومنه أيضاً ما أخرجه الدارقطني عن شعيب بن اسحاق عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر رضي الله عنه ان رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها فاتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما، وهذا واضح في الموضوع، ومن ذلك أيضاً ما رواه النسائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها ان فتاة دخلت عليه فقالت: ان أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخبرته فأرسل إلى أبيها فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي وإنما أردت ان أعلم النساء ان ليس إلى الآباء من الأمر شيء) فأقرها النبي عليه السلام على هذا القول ولم يعقب عليه بشيء، فدل ذلك على أنه لا جبر للنساء البالغات على الزواج، وان استئذان الآباء لهن لم يكن على جهة الاستحباب بل هو على جهة الوجوب ليتحقق الرضا فينفذ العقد، ومن ذلك أيضاً ان النفس أعز وأغلى من المال والأب لا يتصرف في مال البكر البالغ بدون إذنها ورضاها فكيف يجبرها على الزواج ممن هو ابغض الخلق إليها ويملكه رقبتها. وقد أيد هذا العلامة ابن تيمية حيث استدل بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه السلام أنه قال: (لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر، فقيل له ان البكر تستحي، فقال: إذنها صماتها) وفي لفظ في الصحيح: البكر يستأذنها أبوها. ووجه الاستدلال: ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح البكر حتى تستأذن وجعل إذنها الدال على رضاها هو صماتها وسكوتها فدل ذلك على ان فائدة الاستئذان هي الرضا فإذا لم تستأذن فقد وقع ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام فكان غير معتبر، ومخالف لأصول الإسلام وقواعده ومبادئه التي توجب التراضي في العقود. واستدل أيضاً بأنه إذا عينت المرأة كفؤاً أو عين الأب كفؤاً فإن كان المعتبر ما عينته المرأة فقد خالفوا أصلهم وجعلوا للمرأة الحق دون الولي، وان كان المعتبر ما عينه الأب فقد وقعوا في فساد كبير، حيث إنهم لم يعملوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وأذنها صماتها) فإنه عليه السلام جعل الثيب أحق بنفسها من الولي، ودل ذلك على ان البكر ليست أحق بنفسها بل الولي هو الأحق فتركوا العمل بنص الحديث وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه أي مفهومه المخالف أي خصوا الولي بالأب والجد والحديث بظاهرة يعم كل ولي كما ان الحديث باعتبار ظاهره أوجب استئذان البكر، وهم لا يوجبون استئذانها بل يجعلونه مستحباً. وكلا الأمرين باطل فقد ثبت في السنة الصحيحة المستفيضة، واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها وأذنها صماتها، فتخصيص الولي بالأب أو الجد مخالف لهذا الاجماع، أما الحديث المذكور فالمستفاد منه انه عليه السلام فرق بين البكر والثيب كما قال في الحديث الآخر لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر، فذكر في جانب البكر لفظ الاذن، وفي جانب الثيب لفظ الأمر، وجعل إذن البكر الصمات كما جعل إذن الثيب النطق فهذان الفرقان اللذان فرق بينهما الرسول صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب، ولم يفرق بينهما في الاجبار وعدم الاجبار والسر في هذا الفرق ان البكر تستحي ان تتكلم في أمر نكاحها فلم تخطب إلى نفسها بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها فتأذن له ولا تأمر ابتداء بل تأذن له إذا استأذنها وإذنها صماتها، أما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح فتخطب إلى نفسها وتأمر الولي ان يزوجها فهي آمرة له وعليه ان يطيعها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك فالولي مأمور من جهة الثيب ومستأذن للبكر هذا هو الذي دل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما تزويجها مع كراهيتها للزواج فهذا مخالف للأصول والعقول والله تعالى لم يسوغ لوليها ان يكرهها على بيع أو اجارة ولا على طعام أو شراب لا تريده فكيف يكرهها على مباضعه ومعاشرة من تكره مباضعته ومعاشرته، والله جعل بين الزوجين مودة ورحمة في ذلك. وليكن معلوماً ان الله تعالى قصد من الزواج دوام الألفة والمحبة ولذلك أمر سبحانه إذا وقع شقاق بين الزوجين ببعث حكم من أهل الزوج وحكم من أهلها ليتمكنا من إزالة الخصومة والابقاء على المودة المقصودة، وجعل ما يفعل الحكمان هو الفاصل فإن استطاعا إزالة الخصومة والابقاء على المودة فنعم ما صنعا وان لم يستطعا فرقا بينهما اما بعوض أو بغير عوض وكان حكمهما نافذاً فهذا مما يدل دلالة واضحة على ان المقصود من الزواج دوام العشرة والألفة والمحبة فإذا ظهر سبب الخلاف ابتداء فلا ينبغي الاقدام عليه لأن ذلك يجر على الزوجين من المشكلات وسوء العواقب ما الله أعلم به والله سبحانه لا يأمر بما فيه مفسدة ولا ينهى عما فيه خير ومصلحة، ويعجبني في ذلك ما قاله ابن القيم في كتابة إعلام الموقعين: ومن العجب أنكم قلتم لو تصرف في حبل من مالها على غير وجه الحظ لها كان مردوداً حتى إذا تصرف في بضعها على خلاف حظها كان لازما ثم قلتم هو اخبر بحظها منها، وهذا يرده الحس فإنها بميولها ونفرتها وحظها ممن تحب ان تعاشره وتكره عشرته، وتعلقتم بما رواه مسلم من حديث ابن عباس يرفعه: الايم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها واذنها صماتها، وهو حجة عليكم وتركتم ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه لا تنكح الايم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن وفيهما أيضاً من حديث عائشة قال: قلت يا رسول الله تستأمر النساء في بضاعهن، قال: نعم، قلت فإن البكر تستأذن فتستحي، قال اذنها صماتها، فنهى ان تنكح بدون استئذانها وأمر بذلك، وأخبر أنه هو شرعه وحكمه، فاتفق عليه على ذلك أمره ونهيه وخبره وهو محض القياس والميزان. ومما تقدم يظهر ان قول ابن تيمية هو الذي عليه العمل فإنه موافق للمعقول والمنقول، فإن الله لا يأمر بما فيه مفسدة ولا ينهي عما فيه مصلحة فإنه حكيم في أمره ونهيه، سبحانه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريده، ويؤيد هذا ان عقود الزواج في بلادنا لا تكون نافذة لازمه يترتب عليها آثارها، إلاّ تحريرها فبأوراق رسمية على يد عالم مختص يثبت فيها جميع البيانات المتعلقة بالخاطب والمخطوبة والولي والشهود، ويدون في هذا العقد مقدار المهر، وما جرى عليه الاتفاق من الشروط التي تثبت حقوقاً للمرأة، أو حقوقاً للرجل زيادة على ما يقتضيه العقد، ووثيقة العقد هذه هي المعتبرة في اثبات الزواج بعد توقيع رئيس المحكمة، وتتويج العقد بختم المحكمة وبدون هذه الوثيقة التي تحفظ الحقوق، ويمتنع بها التجاحد والانكار، وتحفظ بها الأنساب، وتقطع الطريق على المفسدين من ان يصحب الفساق من يشاء من النساء بدعوى الزوجية كما يكون هذا العقد حماية للأخيار من ان يسأ بهم الظن إذا اجتمعوا مع نسائهم تحت سقف واحد، على ان هذا العقد أيضاً لابد لصحته وكماله ان يثبت فيه توقيع جميع الأطراف بما في ذلك الزوجة ليكون دليلاً قطعياً على موافقتها ورضاها، وبهذا تتجلى عناية الإسلام بالمرأة وحمايتها والعمل على تحقيق مصالحها وحفظ حقوقها. ٭ أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة وعضو المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود