يساجل إوار سعيد أن ليس هناك قضايا خاسرة وأخرى مظفرة منتصرة بشكل حدي مطلق. فتسمية القضايا وإطلاق النعوت على حيثياتها وتفاعلاتها ونتائجها هي ذاتها لعبة توتر بين أطراف تتجاذب المعاني ويحاول كل منها فرض ما يخصه ويضمن مصلحته. فلاسفة التشاؤم ووعاظ التفاؤل لا يعتد كثيراً بأقوالهم في هذا المقام أبداً، فمن يحسم الحكم في هذا الاتجاه أو ذاك لا يفكر بقدرما يعبِّر عن الرأي والانطباع، بل عن الوهم الكئيب أو السعيد فحسب، لا أمل في أحد أو شيء. تعبير يقابل ويعادل «قطرة دم ثم الربيع»! قبل قرون كتب ابن حزم: جعلت اليأس لي درعاً وحصناً فلا ألبس ثياب المستضام الفقيد الظاهري المجتهد المجدد، والمنظر الأهم ل«فكر المحبة» في تراثنا قال هذا القول إثر تجارب مريرة كان من الممكن أن تدفع غيره إلى أقصى درجات الإحساس بالخيبة والخسارة. لكن شيئاً في أعماق الذات المفكرة المبدعة الخلاقة كان يساندها ويحول يأسها إلى قناعة لا تؤول إلى الضعف ولا تستسلم للخسارة بقدرما تحمي الذات وتعزز ثقتها فيما ستقول وتفعل بعد كل معاناة. هذا البيت الشعري يصلح مدخلاً للحوار مع ما يقوله إ.سعيد عن «القضايا الخاسرة» من موقع المفكر المبدع الخلاّق ذاته، فالمقولة يجري اختبارها في خطابات سياسية وأدبية وفلسفية تبرر المعنى ونقيضه في الكلمة والعبارة والخطاب، والأهم من هذا كله أن «القوة» لا يمكنها أن تحسم القضية وتقطع الفكر. حينما ينتصر الأقوياء على خصومهم يظلون يسعون إلى بث اليأس في أذهانهم ونفوسهم لتحويل هزيمتهم الآنية العابرة إلى ما يشبه القضاء المبرم أو القدر المحتوم! كأنهم في قلق عميق من إرادة المقاومة التي عادة ما تتغذى على إيمان الإنسان بعدالة قضيته وصواب فكرته ومشروعية فعله، بغض النظر عن أي شيء آخر. لا مجال إذاً لحصر الفكر في إطار «الحسابات السريعة». هناك «اللحظة» وهناك «التاريخ»، هناك منطق «القوة»، وهناك منطق «الحق»، هناك الشعور المر بالضعف والخذلان، وهناك أيضاً الوعي بمعاني البطولة النبيلة حتى والكائن في ذروة مأساته وقاع معاناته. إ.سعيد صاحب تجربة فردية وجماعية غنية هي التي يحولها إلى موضوع للتأمل من المنظور السياسي. فالقضية الفلسطينية بدت أعوام 48، 67، 82، قضية خاسرة تماماً بالنسبة للبعض. لكن الكاتب المفكر يحرص على تذكير آخرين، معه أو ضده، بمفارقات التواريخ ذاتها حينما تدل على خسارات أكيدة، لكنها غير نهائية البتة. كل فاجعة مؤلمة تولد ظاهرة أو حالة تنعش الأمل وتحد من معاني الخسارة دون نفيها كلياً. بعد «النكبة» أدمج خطاب القضية ضمن خطابات التحرر القومي من الاستعمار، وبعد «النكسة» وانكسار هذا الخطاب ذاته تبلورت منظمة التحرير الفلسطينية التي اكتسب خطابها مشروعية أكبر، وعلى مستوى عالمي رسمي وشعبي. وطرد ممثلي المنظمة من بيروت بعد تدمير الكثير من بناها، هو الحدث الذي دشن سيرورة التفاوض على السلام، وفرض على الخصم القوي الاعتراف بمشروعية خصمه الأضعف الذي قبل منطق الصلح دون منطق النسيان وهكذا. في سياق الخطاب الأدبي يستحضر إ.سعيد نماذج سردية قديمة جداً وحديثة جداً ليدعم فكره بوجهات نظر أمثاله ممن تأملوا القضية ذاتها. سيرفانتيس حول خسارة قيم الفروسية إلى حكاية ممتعة مفادها أن مقاومة تحولات التاريخ وتغيرات منظومات القيم والأفكار هي قضية خاسرة سلفاً، لكن في مجال التاريخ العملي وليس في مجال المتخيل المتحرر من كل سلطة خارجة. هكذا بقي دون كيشوت شخصية أليفة حميمة عند الكبار والصغار، أما حكايته فقد دشنت ملحمة العصر الحديث كله: «الرواية» وهنا عظمة التخيل الحر والتفكير الحر والتعبير الجمالي الماكر الماهر! في قصته الهجائية الساخرة «رحلات جاليفر» كتب جوناثان سويفت: «لقد امتدحت بلادك امتداحاً مثيراً للإعجاب، حيث أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الجهل والكسل والرذيلة، هي المقومات المناسبة لأي كفاءة شرعية فيها، وأن أفضل من يفسر القوانين، ويؤولها، ويطبقها، هم أولئك الذين تكمن مصلحتهم وأسباب قوتهم في تحريف هذه القوانين، ولعنها، والتملص منها». الطريف والدال في هذه العبارة أنها ترد على لسان الملك وهو يخاطب مواطنه الرحالة الذي عاد من «بلاد الأقزام» ليمجد ثقافة شعبه وقوانين مملكته!!. كأن الكاتب ما امتطى مركبة الخيال إلا ليقول بلسان الحكمة الساخرة: «لا داعي للعجرفة والكذب، كلنا نعرف الحقيقة»! أما الكاتبة الفرنسية مارجريت يورسنار «عاشقة الشرق الآسيوي» بامتياز، فكتب عن طياري الكاميكاز اليابانيين الذين جسدوا روح فرسان «الساموراي» في الحرب الثانية، ما يلي: «إن حب القضايا الخاسرة، واحترام أولئك الذين يموتون في سبيلها، يبدو لي، وبخلاف الشائع، على أنه ظاهرة موجودة في كل البلدان وفي جميع العصور.. ذات مرة، جعلت امبراطوراً رومانياً يقول في قصتي: (إن هناك لحظة تكون فيها الحياة بالنسبة لكل إنسان، ضرباً من الهزيمة المقبولة) جميعنا اليوم نعلم ذلك، وهو ما يجعلنا نعجب كثيراً بأولئك الذين اختاروا الهزيمة عن وعي، وعملوا على تحقيقها الباكر في بعض الأحيان». فالكاتبة تعي جيداً أن «المبدأ» غير «الحدث»، وأن معنى الانتصار محايث دائماً للتعلق بالمبادئ والقيم، وهنا تحديداً يمكن للقبول الواعي بالهزيمة أن يكون تحملاً بطولياً للخسارة وليس تسليماً أبدياً بها فيما هي حدث عابر له ما قبله وما بعده. ومن منظور الفكر يستشهد إ.سعيد بأدورنو الذي كتب: «على الأنا أن يلغي نفسه إذا ما أراد أن يشارك الجماعة قسمتها.. فتوقيعك مطلوب، والشعور الجديد بالأمن يشترى مقابل التضحية بالفكر المستقل. وتعزية النفس بأن التفكير ضمن إطار الأفعال الجماعية هو بمثابة تقدم أو تحسن، يثبت دائماً أنه تفكير خادع ومضلل». إ.سعيد وصاحبه يعيان إذن أن الفكر الحر الخلاّق قد لا يكون منسجماً مع الرأي العام، أو مع ما يتقبله العقل الجماعي عن قناعة أو على إكراه. فقوة الفكر ومعاني عظمته تكمن في استقلاليته ومبدأيته وجرأته، فيما هو يسعى إلى الانتصار لحقيقة ما، أو لقيمة عليا، بغض النظر عن حسابات الربح والخسارة التي يلح عليها الخطاب النفعي الآني. كلا الناقدين المفكرين يعلي من شأن نموذج محدد للمثقف المفكر في العصر الحديث، إنه ذلك «المفكر النقدي الذي لا يهادن ولا يعنون وعيه، ولا يسمح لنفسه بأن يرهبها الواقع العملي، إنه باختصار، ذلك المفكر الإنسان الذي لا يستسلم.. وخاصيته النهمة أبدا.. هي مقاومة الاشباع الهزيل، ورفض حكمة الاستقالة الغبية» (تأملات حول المنفى، ص335 وما بعضها، منقولات ببعض التصرف). أردت نشر ما كتبته عن حمد الجاسر «المثقف الإصلاحي»، ولكنني استيقظت هذا الصباح وهذا المقال يلح علي لأكتبه في الحال، لماذا؟ لا أدري بالضبط، لكنني عانيت ليلة البارحة نوماً قلقاً مرهقاً تخلله سجال مع بعض الأسماء وبعض الأصوات وبعض الوجوه. كنت أقول للأكثر ألفة وحميمية منها أن الفكر الذي يستند إلى مبادئ العقل والعدل لا يخسر مهما تنوعت مظاهر هزيمته. أكثر من ذلك كنت أؤكد أن الخسارات الراهنة لقضايا يطرحها ويدافع عنها فكر كهذا هي البداية الحقيقية، والضرورية ربما، لكسبها مستقبلاً. هذا الصباح أدركت أن ما قلته هو بعض ما كتبه إ.سعيد، فكان لا بد من كتابة هذا المقال عسى أن يتسع السجال لما يتجاوز منطق الكسب أو الخسارة الآني، لأنه منطق الخسران ذاته.