يأخذ لبنان في وتيرته السياسية هذه الأيام أجواء الثورة السورية. كل الأحداث الأخيرة كانت تجسيداً للانعكاس الذي يمكن أن تحدثه الثورة السورية على نسيج لبنان، بدءاً من تشكيل الحكومة، ومن ثم التصعيد ضد ما سُمّي مؤخراً ب"الحريرية السياسية" إلى استجلاب موضوع "النفط" في خطاب حسن نصر الله الأخير، كلها مواقف صدرت من الموالين لسورية تجاه المعارضة. من مفارقات السياسة في لبنان، أن المعارضة تهاجم والموالاة التي تمسك بزمام المؤسسات تدافع، على عكس الكثير من الحكومات الديمقراطية في العالم، ما حدث في لبنان العكس، الموالاة تهاجم المعارضة وتريد فتح "الملفات" وتريد محاسبة المعارضة في الحقبة السابقة! وتدل المواقف الحالية المأزومة للموالاة ممثلةً بحزب الله والتيار الوطني الحر وأتباعهما، تجاه المعارضة ممثلةً بحزب المستقبل والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية أن الموالاة تعيش تأزّم الأجواء السورية. المواقف التي تصدر من وليد جنبلاط ذات دلالةٍ خاصة، لأنه - وفق كثيرٍ من اللبنانيين - "شعرة الاستشعار" في جسد السياسة في لبنان، يستطيع أن يبصر الموجة السياسية قبل غيره، وحين تحوّل من محور الاعتدال آنذاك إلى المحور السوري - الإيراني كان بوش يستعد لمغادرة البيت الأبيض! لهذا فإن مواقف جنبلاط الأخيرة ربما جاءت هي الأخرى ضمن المناخ الذي بثّته الثورة السورية على الأجواء السياسية في لبنان، ففي زيارة جنبلاط لروسيا في 22 (تموز) يوليو وصف ما يحدث في سورية ب«الثورة»، ورأى في مباحثاته مع وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في موسكو، ضرورة تقبّل فكرة أن الشعوب العربية تريد الحرية! وعلى الرغم من التوضيحات اللاحقة التي طرحها، غير أن المضمون الأساسي للتصريح مفاده أن الموجات القادمة ربما لا تكون بصمتها "سورية" في لبنان، كما نقرأ في ذات السياق عودة علاقة جنبلاط مع صديقه اللدود المنشقّ عن تكتله السياسي وأعني به النائب مروان حمادة، والذي التقاه في 28 (تموز) يوليو، معلناً عودة العلاقة إلى طبيعتها، مع احتفاظ كل طرفٍ بموقعه السياسي. اعتاد لبنان منذ أن بسطت سورية سلطتها على الكيان السياسي في لبنان التحرك ضمن الموجة السورية، سواء لدى المعارضةِ أو الموالاة؛ حيث تحضر سورية في الخطاب السياسي اللبناني لدى من يعارضها أو يواليها، لهذا جاءت الثورة السورية الحالية بمثابة "صدمة" للموالين لسورية، لم يكن يتوقع أولئك الحلفاء التاريخيون لها أن يبصروا هذا النظام "المهيب" الذي كانوا يتحركون بأوامره مثل التلاميذ وقد غدا محاصراً من قبل الشباب الذين يريدون تغيير النظام، وكأنني بهم يتساءلون: من كسر حاجز الخوف هذا؟! وبقراءة مضمونية لما ورد في خطاب نصر الله الأخير نراه يصر على قوّة حزبه، ويتحدث عن "مئات الملايين" التي يمكن أن تجلبها الأراضي النفطية في لبنان في حال التنقيب عنها، يحاول أن يطرح الحزب بوصفه مستقلاً عن الذي يجري في سورية مهدداً إسرائيل، لكأنه يرسل رسالة مفادها أن "ضعف النظام السوري الذي يمرّ به الآن، لا يدل بالضرورة على ضعف حزب الله"، لكن النفق الذي أدخل نصر الله اللبنانيين فيه في خطابه الأخير هو إعلانه "تسييس الثروة النفطية" فهو نطق بلغة العارف بأسرار هذه البقع النفطية، وهذا شكّل صدمةً لبعض القوى المسيحية المعارضة ممثلةً بسمير جعجع في مؤتمره الصحافي الذي عقده في 29 (تموز) يوليو، ذلك أن حديث نصر الله عن النفط ربما يعني "حصره بطائفةٍ ما" ولو على سبيل الإدارة وهذا الكلام يرعب المسيحيين الذين عانوا من تهميشٍ تاريخي، إذ صدمهم نصر الله بأخذ منصب مدير الأمن العام المعروف تاريخياً بأنه منصب مسيحي، ثم بإعلانه عن "تسييس النفط" وربما "تشييعه" كما يلمّح جعجع في مؤتمره الصحافي الأخير. وإذا عدنا بالذاكرة إلى الحركة السياسية في لبنان منذ تشكيل حكومة "ميقاتي" وإلى اليوم سنرى أن التأزيم السياسي يأتي من الموالاة، وليس من المعارضة؛ حيث تنشغل الموالاة بحرب المعارضة، بينما تتفرج المعارضة بهدوء وتصرح بين الفينة والأخرى نافيةً بعض الاتهامات. هذا التوتر الذي يبديه حلفاء سورية في لبنان، إن دلّ فإنما يدل على صعوبة الوضع في سورية، ذلك أن إدارة معظم المناطق أفلتت من السلطة، هناك فرق بين أن يستطيع الجيش السوري أن يصل إلى هذه المدينة أو تلك؛ وبين أن يستطيع إدارتها والتحكم بها، إن فقدان النظام السوري قدرته على إدارة المدن يعني أن حلفاءه في لبنان لن يكونوا سعداء، بل سيعيشوا حالةً من "تهشّم الحصن" الذي كان يحميهم من كل القوى الإقليمية منذ نصف قرن. لنقرأ لبنان جيداً حتى نفهم الذي يجري في سورية، خاصةً وأن التعتيم الإعلامي السوري قد بلغ أوجه، ففي رصد حركة السياسة في لبنان ما يدل على مستوى الفلتان في سورية، هذه هي المعادلة التي دلت عليها المواقف الأخيرة..