يروي ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) أن الشاعر حينما يشكو في نسيبه "شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق" إنما "ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به أصغاء الأسماع". وحري بقصص الحب والهيام، وما تعتلج به قلوب الأحبة أن تستميل القلب واللب، وأن تجعل القارئ ينساق لهذا القصص. ومن أجل ذلك مال بعض الشعراء إلى أن يجعلوا من قصائدهم إطارا لقصة، اكتملت فيها جوانب الأسلوب القصصي، فباتت قصة أو أكثر ذات بداية ونهاية، وكأنها تعود بالقصص إلى أصلها الذي ما لبث أن يتغير ويتطور من حقبة لأخرى. ومهما يكن فإن الشعر والسرد جنسان مختلفان، ومع ذلك فهما يتقابلان ويتقاطعان في مجموعة من الصفات، فإذا كان الشعر يعتمد على الوزن والإيقاع، وعلى القافية في بعض الأنواع الشعرية، فإنه على ما مرّ يأخذ من السرد شيئا من خصائصه في بعض القصائد فيسرد واقعة أو حدثا ما. إلا أن مجرد وجود حكاية تُسرد براوٍ لا يعني خروجه عن الجنس الشعري إلى الجنس القصصي، ولعل هذه الظاهرة ظاهرة الخروج عن القواعد الأساسية في الجنس الأدبي ليست مقتصرة على الشعر وحده، فكثير من الأجناس الأدبية قد تخرج في أكثر من جانب من جوانبها إلى جنس آخر. في ديوان (رحلة البدء والمنتهى) للشاعر عبدالعزيز خوجه، شيء من هذا المزج في ما بين الشعر والقصة، والانحراف عن التكوينات الشعرية إلى التكوين القصصي والسردي، فمال في بعض قصائده إلى سرد وقائع بشكل جعلنا نتتبع الحدث بتفاصيل كثيرة، كما لو كنا نقرأ قصة من القصص القصيرة، بكامل مكوناتها السردية، كما كان يفعل بعض الشعراء ابتداء بالجاهليين مثلما كان يفعل امرئ القيس في طردياته، أو كما نقرأ في طرديات أبي نواس، وكما نقرأ القصة عند عمر بن أبي ربيعة في غزلياته، وكما نجد عند الفرزدق في قصيدته التي وصف بها استضافته للذئب. وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نجد الشعراء يقصون علينا قصصا في قصائدهم، بتفاصيل كثيرة، وبتقنيات سردية متعددة وجديدة. ولعل أكثر من اهتم بالقصة في الشعر، أو القصة الشعرية كما تسمى، شعراء المهجرين: الشمالي والجنوبي، ولعل إيليا أبا ماضي من أبرز من طرقوا هذا الجانب في الشعر المهجري. والسؤال هنا: هل عطل السرد الوارد في تلك القصائد عمل الشعر؟ أو هل انحرف الشاعر في قصائده المسرودة عن مفاهيم السرد؟ في القصائد التي وردت في ديوان (رحلة البدء والمنتهى) ومالت إلى الأسلوب القصصي في بنائها، كانت تأتي أحيانا في شكل تفاصيل قصصية دقيقة، حتى إنك تقرأ قصة ببداية ونهاية، بكامل مكوناتها من زمن وراوٍ وحدث ومكان. كما أنه ينطوي في بعض القصائد على ومضات مكثفة من الأحداث، ولكنها مع ذلك تتضمن مجموعة من مكونات السرد، ما يذكرنا بالقصص القصيرة جدا: ونظرت إلى العنوان هل يعنيني اليوم بشيء هذا العنوان؟ لم يتعثر خطوي لم يتزايد خفقي لم تحمر خدودي كالصبيان أرقام الهاتف مرت في ذهني باهتة من طي النسيان! هانحن معا وامتدت في برد الأفق يدان وكأنهما ولأول مرة ترتعشان وكأنا في درب العمر غريبان. فالشاعر حينما وصف وقوفه أمام العنوان، ثم انتقل إلى وصف الوقع النفسي لهذا العنوان، اهتم بالتركيز على اللحظة الراهنة بوصفها المفتتح للحدث، ثم انتقل في شكل كبسولة من الأحداث المتتابعة، الممتدة في الزمن، لكنّها في الوقت عينه حدثت في لحظة يسيرة، وهي لحظة الاسترجاع والتفكير، وهي التقنية السردية التي يلجأ إليها الروائيون، وكتاب القصة عموما، لسرد الحدث في الماضي. لكن .. هل مجرد الحدث يجعل الزعم بوجود مكونات سردية في القصيدة صحيحا؟ في قصيدة (فتاة الغولف) ص (287) نكاد نقرأ قصة كاملة حوت الحدث، والزمان، والمكان، والشخصيات أيضا. كما أنها كانت تناوِب بين السرد والحوار، يقول الشاعر: ثملت عيون سعيد حين رآها وتسربت دنياه في دنياها والعشب جذلان يطأطئ رأسه لما خطت من فوقه قدماها كتب الرسائل في انتظار جوابها حرقت رسائله وما أرضاها في هذه القصيدة اهتم الشاعر بأن يروي لنا الحدث بترتيبه الزمني (الكرونولوجي) بحيث يتتبع القارئ الحدث، مبتدأ بمدخل يشده نحو السبب الذي من جعل عيون سعيد تثمل، لا عقله. وبدأ الحدث يتصاعد، وصنع منه عقدة، حينما جعله يكتب الرسائل، وينتظر جوابها، في حين أنها تحرقها: من نظرة قد ذاب في ملكوتها من لفتة عزف الفؤاد هواها ورأيته نسي الوجود صبابة ومشى يقبِّل كالمريد خطاها ولأجلها ترك الرفاق كأنه مجنون ليلى هام في ذكراها لما رأى من حسنها ما قد رأى خابت حبائله وما أغواها ثم تأتي النهاية وهي أن الحب كان من طرف واحد، وأن هذا المحب (سعيد) لم يصل إلى ما يطفئ سعير الحب في قلبه، وفي النهاية يطلب الشاعر من المكان الذي احتضن معاناة سعيد أن يبقي على ذكراه في هذا الموقف. وكأنه النهاية المفتوحة التي يتركها القاص لقصته: هز الهوى أوتار خفق فؤاده يا لائمي سبحان من سواها ما عاد ينفع يا سعيد رجاؤنا الحب أضنانا وما أضناها يا أرض جولف في الرباط تذكري حال الفتى العلوي حين رآها وقد يستخدم الشاعر عبد العزيز خوجة تقنية القطع بالوصف، كما في قصيدة (مسافر في عينيها) ص (63)، حينما جعل يصف المحبوبة حينما دخلت، بثلاثة أبيات، ثم يوقف السرد لينتقل إلى الوصف: كفجاءات الإلهام طلعت كالبدر أيقظت الأحلام لعمري... أبهى من كل الأقمار أحلى من كل الأشعار العين قصيدة الثغر قصيدة والخطوة إيقاع سحري والبسمة وعد في خفر ويستمر الشاعر في وصف تلك الجميلة، ضحكتها، وهمستها، وشعرها. ليجعل من هذا الجزء الأخير نهاية للوصف، لينتقل إلى الحدث المهم هنا، وهو وقع كل تلك الأوصاف الجميلة عليه فيقول: فأخر شهيد الشَعر على النحر فتناديني العينان وتأخذني تغرقني في عمق البحر ولأن حاله في عمق البحر يحتاج إلى وصف يساعد القارئ في الدخول معه في نفس الأحاسيس، قطع الشاعر السردَ، لينتقل إلى الوصف: وكأني أسمع نفث السحر وكأني أسمع صوت حداء وليعبر عن حيرته بعد ذلك، ينتقل إلى مونولوج، والمونولوج هو جزء من التقنيات القصصية، يتجه فيه الحوار إلى الداخل، أي مع النفس، وعادة ما يميل كتاب السرد إلى المونولوج ليعبروا عن حالة التيه، والضياع، والحيرة، وهذا ما حدا الشاعر هنا إلى هذا النحو من الحوار حين يقول: أأنا في بحر أم في بر؟ أم أسبح فوق سماء؟ وأنا مأخوذ مأخوذ لا أدري شيئا من أمري هذه القصيدة (مسافر في عينيها) تخِذَت من السرد أهم مقوماته، كالحدث، والترتيب الزمن التصاعدي، والقطع، والمونولوج. وما جعل الشاعر يميل إلى هذه التقنية أن الموضوع الذي يتحدث فيه، يحتاج إلى الانتقال والتنويع، فيما بين الوصف الخارجي (وصف هذه الغانية) والوصف الداخلي (وصف ما أحدثته الدهشة فيه)، ولذلك يجد القارئ لديه إضفاءً حركيا على الشخصيات، أي أن سرد الشاعر هنا ليس شكليا وهميا، يوهم بوجود السرد في حين أنه يمتطي صهوته، بل مال في بعض قصائده إلى ما يصطلح عليه بالسرد الدرامي، حينما يعتمد في القصيدة على الحوار، والحركة، والمفارقة أيضا، ففي قصيدة (روعة اللقاء) ص (92) يبدأ بالحدث، ثم يدخل الحوار، والحركة، والموضوعية أيضا، بأن يوجد شخصية أخرى: أقبلت ليلى علينا مرحبا إن ليلى أنجزتنا المطلبا سكنت روع فؤادي فارتوىبلقاء نلت فيه الأربا قلت يا ليلى أحقا ما أرى قبلتني ثم مالت طربا ثم قالت في دلال ضمني قد لقينا في الفراق التعبا إن المتأمل في الأسباب التي جعلت الشعراء وعبد العزيز خوجة أحدهم أن يميلوا إلى السرد يعود إلى مجموعة من الأسباب، منها ما قدمناه في بداية القول عن استمالة قلوب السامعين وجلب إصغائهم، إضافة إلى أن الشاعر المعاصر شعر بأن السرد أقرب مكانة للسامع والقارئ، ذلك أن الشعر قد يزيد في إغراقه في الخيال، ويبتعد عن واقع القارئ، إلا أن القصة تلامس عقل القارئ، ويحس بأنها تدعوه إلى المشاركة، وهذا ما فعله عبد العزيز خوجة في قصيدة (قهوة المساء) ص (95)، حينما بدأ بالتركيز على الزمن بأن جعله في مطلع القصيدة، وناوب بين الحوار والوصف: عند المساء .. تقول لي حبيبتي: أخاطب السماء كل ليلة فيثمل القمر وتسقط النجوم بين شرفتي وشهقتي مطر تعال لي نغازل السماء في السحر قالت ودندن الهوى ورقّ في السمر كم أعشقك نسيت عندها جنونها وصار نبض خافقي وتر وقد تعمدت أن أنقل النص كما هو، من حيث الشكل، لبيان أن الشاعر يريد تأكيد مسألة السرد والحوار، وهما من الأركان المهمة في الأعمال القصصية، كما أن الشاعر بدأ بالزمن (عند المساء) والزمان في الإنتاج الروائي كما يقول (مندلاو) في كتابه (الزمن والرواية) عامل تكييف رئيسي في تقنية الرواية، لأن الإنسان في العصر الحديث حينما يواجه الزمن، إنما يشعر بأنه يستطيع أن يفهم معنى الحياة، وأن يكون لديه منظور صحيح للواقع. وحينما نعود إلى القصائد التي وردت في ديوان الخوجة بتقنية السرد، نجدها جميعا تركز على عامل الزمن، بل قد يصرح بالحديث عن الزمان مباشرة، فيرى أنه يختلس الزمان اختلاسا كما في قصيدة (العطش الدائم) ص (188) حين يقول في مطلعها: ولقد عرجت إليك أختلس الزمان من الشجون وسبحت لا قنديل عندي غير حبك أو جنوني وهذا هو الأسلوب الذي يميل إليه القصاص، والشعراء أيضا في شعرهم القصصي، حينما يظهرون التركيز الواضح على الزمن، إما بالتصريح المباشر، كما في البيت السابق، أو بالاعتماد على أساليب جديدة تتضمن مشكلة الزمن.