في البدء نتساءل.. من الذي لا يعاني في حياته بشكل أو بآخر؟! الجواب: جميع العقلاء يعانون بدرجات مختلفة: (ما عليها مستريح) كما يقول المثل الشعبي و(الحياة مشاكل وحلول مستمرة) كما يقول الفلاسفة، وهي (تحد واستجابة) ولهذا تجد المعاناة في سبيل تحقيق الأهداف طعماً لذيذاً لأنها جزء من الكفاح، وما أجمل الرجل حين يكافح وهو يبتسم .. في آمالنا طول ، وفي أعمارنا قصر ، في حياتنا طموح وفي واقعنا - نحن البشر - عقبات وصعاب ، لهذا كانت المعاناة في تحقيق الأهداف وفي تحقيق الذات وفي الحب والرغبات ، وفي مسيرة العمر جزءاً مكملاً لوجودنا تقريباً، وبهذا نفهم رائعة خالد الفيصل : يا ليل خبرني عن امر المعاناة هي من صميم الذات ولا اجنبيه؟ هي هاجس يسهر عيوني ولا ابات أو خفقة تجمح بقلبي عصيه؟ هي صرخة تمردت فوق الاصوات أو ونة وسط الضماير خفيه أو عبرة تعلقت بين نظرات أو الدموع اللي تسابق هميه اعاني الساعه واعاني مسافات واعاني رياح الزمان العتيه واصور معاناتي حروف وابيات يلقى بها راعي الولع جاذبيه ولاني بندمان على كل مافات اخذت من حلوا الزمان ورديه هذي حياتي عشتها كيفما جات اخذ من ايامي وارد العطيه ونعتقد ان المعاناة تجمع كل تلك المتناقضات، فهي من صميم الذات.. وهي أجنبية.. وهي هاجس صامت أحياناً، وآهات مسموعة أحياناً أخرى، وهي - في الحب بالذات - جزء من حلاوته وروعته، بشرط الا تصل إلى حد اليأس. الحب فيه معاناة الفراق.. الهجر.. الغيرة.. الخوف على الحبيب.. والخوف من فقدانه.. والشوق إليه.. وكل هذا يجعل حياة العاشق (حارة) مثيرة لا مكان فيها للملل.. كما ان لقاءه بالحبيب يمنحه من السعادة اضعاف ما لاقى من المعاناة. ولكن بعض الشعراء العشاق لهم رأي آخر.. فهم يرون ان العاشق يعاني ويتعذب في اللقاء والفراق: وما في الأرض اشقى من محب وان وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل وقت مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي ان نأوا شوقاً إليهم ويبكي ان دنوا خوف الفراق فتسخن عينه عند التنائي وتسخن عينه عند التلاقي وهذا متشائم وفي قوله مبالغة فقد صور لنا المحب وكأنه (النائحة) التي تذرف الدموع ليل نهار في لقاء وفراق.. وأقل منه تشاؤماً وأقرب للواقع قول ابن الدمينة: وقد زعموا ان المحب إذا دنا يمل وان النأي يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على ان قرب الدار خير من البعد ولكن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود وأشد من هذا ان يحب المعشوق إنساناً آخر، هنا الغيرة والمعاناة والألم (جهد البلاء) على حد تعبير العباس بن الأحنف: إن جهد البلاء حبك انسانا هواه بآخر مشغول والحل هنا ان يقدم الإنسان كرامته على حبه ويسفه قلبه ويذكره بعيوب المحبوب، ويبحث عن الزواج من امرأة فاضلة جميلة، فإنها تنسيه معاناته بالتدريج. ياليل خبرني عن أمر المعاناة، هي من صميم الذات ولا أجنبيه؟ (خالد الفيصل) ويذكر لنا أبو فراس الحمداني معاناته مع الحب والحبيبة ويزعم أنه (لا يذاع له سر) في نفس القصيدة التي أذاع فيها سره، وأنه يستنكر ويستكبر ان يذرف الدمع جهاراً، ولكنه يجهر بأنه يذرف الدمع وحيداً بليل.. وهذا من سحر الحب الذي يجعل المعاني تخلتط، ومن سر الشعر الذي يفضح مكنون القلوب: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر بلى، أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر تكاد تضيء النار بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكر معللتي بالوصل، والموت دونه إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر حفظت، وضيعت المودة بيننا وأحسن من بعض الوفاء لك العذر وفيت وفي بعض الوفاء مذلة لفاتنة في الحي شيمتها الغدر تسائلني: من أنت؟! وهي عليمة وهل بفتى مثلي على حاله نكر فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر؟! والخلاصة ان المعاناة جزء من الحياة، وأنها تزداد كلما كبرت النفوس وارتفعت الهمم وبعد الطموح. أما معاناة المحبين فهي تشعل الحب طالما بقي هناك أمل قوي في نيل المحبوب أما إذا انقطع الأمل فإن المعاناة تقتل الحب باليأس وتموت معه ويستريح العاشق المسكين، فاليأس إحدى الراحتين والأخرى هي الموت! .