ظل الجميع يترقب فيلم (مملكة السماء- of Heaven Kingdom) بفارغ الصبر، فالجدل حوله تجاوز كل الحدود، وفكرته المستفزة قد لفتت الأنظار إليه وجعلت، ليس جمهور السينما فحسب، بل كثير من المفكرين والسياسيين ومن لهم علاقة من قريب أو من بعيد بقضايا الصراع الفكري والسياسي بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، جعلتهم -جميعاً- يتلهفون لمعرفة الكيفية التي سيتناول بها المخرج البريطاني «ريدلي سكوت» هذه الفكرة، وأيضاً الكيفية التي سيظهر بها طرفا النزاع، وبالذات المسلمون.. وقد ساهمت التعليقات المبدئية التي أطلقها النقاد وبعض المنظمات حول الفيلم في إشعال جذوة حماس الجمهور الذي توقع من هذا الفيلم عمقاً فكرياً يساهم في خلخلة وتفكيك المفاهيم الخاطئة والمترسبة في أذهان المسلمين والمسيحيين على السواء.. لكن الذي ظهر في الفيلم -وهو ما يمثل خيبة بالنسبة للكثيرين- هي العناية بالشكل، بالمؤثرات وبأجواء الحرب المبهرة، والقفز على حقيقة الخلاف وعلى «فكرة» الخلاف نفسها، لتأكيد فكرة واحدة، تبدو متهالكة.. هي أن «الإنسان» فوق كل شيء، فوق الأديان، فوق مملكة السماء.. وفوق «رب» مملكة السماء أيضاً.. الفيلم يبدأ في فرنسا، في إحدى القرى، حيث مجموعة من القساوسة يتحوطون حول جثة امرأة يريدون دفنها، لكن بعد أن قطعوا رأسها عقاباً لها لأنها انتحرت.. هذه المرأة هي زوجة الفارس الشاب «باليان» وقد انتحرت حزناً على وفاة طفلها الصغير.. «باليان» وهو بطل الفيلم -يؤدي دوره البريطاني أورلاندو بلوم- يكون أثناء الجنازة منشغلاً بعمله كحداد، فيأتيه أحد القساوسة ليطلب منه الرحيل إلى القدس والالتحاق بفرسان الصليب لمنازلة الكفار هناك، علّه بذلك يكفر عن الذنب العظيم الذي اقترفته زوجته، والتي حتماً ستحترق في جهنم وستسام سوء العذاب.. «باليان» المفجوع الذي لم يستطع احتمال كلام كهذا، انفجر وارتكب الجريمة الكبرى، لكن دون أن يشعر بندم أو بوخزة ضمير واحدة.. بل شعر بأن هذا هو العقاب الطبيعي الذي يمكن أن يتحصل عليه القسيس نتيجة صفاقته ووقاحته ونتيجة الأغلال التي زرعها في حياة «باليان» وقبل ذلك في حياة زوجته الشابة.. ولكي يحيا الإنسان بحق، لابد أن تزاح هذه الأغلال.. كانت هذه هي الفكرة الأساسية المحركة للفيلم والموجهة لأحداثه ولشخصياته وبالذات الفارس «باليان»، وهي التي سترافقنا منذ الآن، منذ بدايات الفيلم، وحتى نهايته حين يغادر المسيحيون القدس.. بعد هذه الحادثة، يلتحق «باليان» بجيوش الصليب ويذهب إلى القدس، مرافقاً لأبيه الذي هو أحد القادة الكبار، والذي يموت، ليحل الابن محل أبيه، ويصبح «باليان» قائداً عظيماً يدافع عن القدس، عن ملكوت السماء، ضد الكفار المسلمين.. مخرج الفيلم «ريدلي سكوت» يبدو في فيلمه هذا ميالاً إلى العناية بالصنعة الشكلية وبالزخرفة أكثر من أي شيء آخر، حيث طغت الصبغة التجارية الهوليودية على ملامح الفيلم، من قصة حب تبدو ساذجة ومفتعلة، إلى اهتمام بتصوير المعارك وإبراز لفخامتها، حتى لتشعر في بعض الأحيان أن المخرج قد نسي الفيلم ونسي حكايته، وانساق فقط إلى لعبة المؤثرات البصرية، وكأنما هو طفل صغير انشغل بلعبته الجديدة عن الناس من حوله ! لكنه، رغم ذلك، لم يُعدم الفكرة ولا المضمون الجيد، حيث شحن أغلب مشاهد الفيلم بفكرته ذات النزعة العَلمانية الصريحة والتي تحمّل الأديان تبعات كل المآسي التي حلت بالعالم، وتطالب بإزاحتها من أجل حياة أسعد للإنسان.. هذه الفكرة، رغم بعض التحفظ عليها، إلا أن وجودها سيسعد -بكل تأكيد- أولئك الذين يبحثون عن أي معنى وعن أي قيمة للفيلم، فهو بلا هذه الفكرة سيبدو خواء تاماً وشكلاً مجوفاً خالياً من أي روح.. إن مسألة العناية القصوى بالشكل ليست جديدة على «ريدلي سكوت»، فهو انطلق أساساً من هذا الفلك، فلك المؤثرات والإبهار، حيث قدم في العام 1979 الجزء الأول من سلسلة الخيال العلمي الشهيرة (غرباء - Alien)، بعده بثلاث سنين قدم فيلم خيال علمي آخر هو (Blade Runner) والذي رغم ثراء مظهره الخارجي وفخامته إلا أنه كان عميقاً وفلسفياً بشكل استثنائي، في العام 1991 قدم فيلمه الأفضل -ربما- في مسيرته الإخراجية، فيلم (ثيلما و لويز - Thelma & Louise) والذي تخلى فيه عن أجواء الأبهة والفخامة، وقد قامت ببطولته النجمتان المعروفتان (سوزان سوراندون -وَ جينا ديفيز)، وفيه ربما نلمح النَفَس المتحرر والإنساني المسيطر على فكر «ريدلي سكوت».. وبالمزج بين هذا النفس الذي ظهر في هذا الفيلم تحديداً، وبين عنايته بالشكل في أفلامه السابقة واللاحقة، ستظهر أمامنا التركيبة التي قدمها في فيلمه الأخير «مملكة السماء».. فهو هنا بدا متطرفاً فيما يتعلق ب «الإنسان» وبتقديسه المطلق له، وتفضيله على الأديان، كل الأديان، وعلى كل ما هو مقدس في هذه الحياة.. وعلى لسان الفارس «باليان» تتأكد هذه «الفكرة» ويتضح هذا النفس، حيث يصرح «باليان» في كثير من مشاهد الفيلم بهذه الفكرة وبهذا التوجه، من ذلك ما واجهه من اعتراض عندما أمر بإحراق جثث أتباعه الذين قضوا في المعارك مع المسلمين، حيث دخل في جدل كبير مع أحد القساوسة والذي اعترض على هذا الأمر بحجة أن هذا سيغضب «رب» مملكة السماء .. وفي مقطع آخر، وأثناء احتدام الحصار، يقول «باليان» لأتباعه : (نحن لا نحارب من أجل حجارة لا قيمة لها، ليس من أجل مقدسات ولا كنائس ولا مساجد، نحن لا ندافع عن هذا، إنما ما يهمنا هو نحن، هو الإنسان، أنا وأنت والأطفال والنساء).. ثم يعلن في مشهد لاحق عن الفكرة بوضوح تام، حين يرد على كلام القسيس بقوله : (لقد سمعنا أرائكم بما فيه الكفاية).. وكأنه بذلك يحمّل رجال الدين مسؤولية هذا الاحتقان، وكأنه يطالب بإزاحتهم عن الطريق كي يعم السلام بين العالمين.. الفيلم، في نهايته، جيد جداً، سيحقق المتعة البصرية -حتماً- للباحث عنها، لكنه إلى ذلك يفتقر للعمق، فهو لا يعبأ بالحملات الصليبية ولا يبحث في حقيقة الصراع بين المسلمين والمسيحيين، كما كان متوقعاً منه، إنما هو ينظر إلى هذا الصراع باعتباره -فقط- مناخاً يستطيع من خلاله تمرير فكرته الوحيدة وإبرازها، أيضاً دور صلاح الدين، ودور «باليان» نفسه، وبغض النظر عن مدى الدقة التاريخية، فهما لا يمثلان بالنسبة للمخرج سوى قالبين يستطيع أن يشحنهما بفكرته هذه، والمشاهد القليلة التي ظهر فيها صلاح الدين تثبت ذلك، حيث لم يخل أي منها من إشارة إلى فكرة «الإنسان» وقيمته المتعالية على كل مقدس.. وهناك معنىً آخر خفي، متوارٍ، قد يتضح حين نُقرُّ بطغيان النفس العلماني على الفيلم، وهذا المعنى يشير، أو كأنه يشير إلى الحروب الأخيرة التي يقودها المحافظون الجدد، والذين يعلنون صباح مساء أن حروبهم هذه ما كانت إلا بمباركة الرب وأنها حروب مقدسة ينبغي على المسيحيين جميعاً نصرتها ودعمها، والفيلم، كأنما يعلن -بهذا المعنى- براءته من بوش وأتباعه، الذين شنوا الحروب ضد «الانسان» في العراق وافغانستان.. وكأنه يقول : ( إن أراد الرئيس الأمريكي أن يذهب كي يقتل «الإنسان» مصحوباً بمباركة الرب.. إذن فليذهب وحده .. ولا شأن لنا به)..