لغة الغيوم التي تتراخى الآن بكسل شديد فوق وادي الأخضر ، وترتبك في مشهدها الطرق المتفرّعة من مدينة تبوك باتجاه قراها ومراكزها ، تحدث العابرين عن قصة أبناء الحدود الثائرين على أنماط الوعي ، وتتوهّج لغتها أكثر كلما استدارت الشمس نحو فصل أو موسم لم تحفّ الأرض بسيرته أشجارها ، ، يستدعي في ذاكرتنا صور السفر وشكل طيور الحدود المحلّقة باتجاهات مختلفة وحادة . لم ير (محمّد) أشدّ من تلك الحدّة المنغمسة في وعيه التي تثير غباره هذه الصورة ، فهو يعشق التحليق ويكره الطيور ، يحب المكان المفرّغ من كل شيء بين الحدود ، شجيرة الشيح تغرق في هواء يغمرها عابراً إلى وِحْدةٍ تنتظره عند جبل ينتصف في رمال حسمى* ، السماء تبدو وكأنها على موعد مع زرقة بحر تتضاءل الحاجة إليه في أذهان البدو الذين رحلوا من تهامة الساحل إلى أودية وجبال ضم ، الواقعة إلى الجهة الشمالية الغربية من أرضهم التي تركوها ، فتنة اللون الذي يحكي سهو الجبال تزداد ، والوحدة التي تنتظر الهواء تتبادل مع شجيرة الشيح أسرار وأغنيات الكثبان الرملية الحمراء ، يتساقط على رعشة الهواء مطر قليل ، وتبدو السماء وكأنها بدأت تستر عريها بأطراف غيم تتهادي من جهة الشرق ن ينتقل الهواء إلى حالة أكثر ثقة وهدوء ، ولا يعي ما الذي يدفع الشيح لبث رائحته في فضاء الوادي المطل على سفح جبل رُوَى وهو غارق بوحدة عميقة ، بين تهامة الساحل وحسمى التي تحفها من الشمال ، الرمل الذي تلتقط الطيور من جبينه بعض الحبوب المنسية من عتاد بدو رحلوا البارحة ؛ يشد العابرين للجلوس رغماً عنهم ، والارتياح قليلاً على أجساد الكثبان المتناثرة هنا وهناك ، كأجساد فاتنات يلتقين بالهواء مختلفاً على شاطئ بحر أسطوري ، لون الرمال يحرضنا على الانغماس أكثر في البحث عن رغبة الحياة التي تجيد فن استدعاء البدو إلى أنحائها ، مفرّغين من رغبتهم في ملاحقة المواسم . ونحن ننغمس بهذا عابرين إلى البحر ، سألت رفيقي محمد : هنا في هذا المكان يحضر الشعر ، وتتكاثف الصور المحرّضة على الإبداع ، إلا أنني وأنا أرسم وأعبر هذا المشهد ، لا أرى ذلك الاشتباك الحميمي بين الشعر والمكان ، لماذا لم يكن للشعراء في تبوك حضورهم المناسب في وعي القصيدة التي تبني أعشاشها من ملامح هذه المشاهد الرائعة ، والحالات النفسية التي يتشكّل بها واقعهم الطبيعي بروعة لا تكاد تنتهي ؟ رد بسرعة قائلاً : الشعراء الآن ، يكتبون خارج العلاقة بين الذات والكون ، يصوغون نصوصهم بعيداً عن تلمّس الأشياء العميقة ، الكتابة الشعرية لديهم مجرد استرسال في حديث ما ، لا يحمل من الصور شيئا ولا يعكس إلا حالة بليدة من التواصل مع الحياة ..