صديقي المثقف يعشق فيروز وماجدة الرومي، لا ينفك يردد متلازمته عن الشعبية التي يستحقها مارسيل خليفة ومكادي نحاس، هو يكره كل الأغاني الطربية التي ترتج بها سيارات الشباب عند الإشارات الضوئية، وفي الزحمة التي تختنق بها المدن الكبرى في الوطن الحبيب، يكاد يفقد عقله لو ردد أحدهم لحناً لأغنية تتناول الفواكه والخضروات، أو تتغنى بالحمار المحبوب وسيارة الأجرة التي تعرف طريقها إلى المحبوب المنتظر. هو مثقف حثيث بكل معنى الكلمة، يعاني من التناقض الذي يأسر الكثير من قناعاته، فهو على احتقاره للشعر النبطي لأنه لا يتذوقه مطلقاً، يهتز طرباً لقصيدة النثر التي لا يستطيع أن يحفظها، أو لقصيدة أبهرته تقنيتها المدهشة التي كانت عبارة عن نقطة وحيدة، حيث تجسد كما يرى: "الفراغ العربي والتلاشي في منظومة العولمة" والكثير من الكلام الذي يتغير كل مرة، لأن التفسير غير ثابت والقراءة تتعدد!، وحتى شكل النقطة ليس ثابتاً، وإن أصر اللغويون ونافح الرياضيون عن ذلك. هو يحتقر أغاني بشير حمد وطاهر الإحسائي، لاعتبارات تتعلق بالابتذال، لكنه يعشق السالسا والتانغو، لاعتبارات تتعلق بالجمال والفن والإنسانية. اليوم يعيش صديقي المثقف معضلة كبرى، فقد جادل يوماً على مشروعية "تحية جديدة" انتشرت في المحاضن الثقافية، جسدتها أنثى ب "مواء" يستمطر الخير على الحضور، "لقد كان ذلك إنسانياً بنَفَس لم يحلم به فولتير على حد تعبيره، إنه لطيف ويستدرج العقل ويهيئ الروح"، لكنه لم يستطيع أن يتسامح بذات القدر أو أقله، مع أغنية يمارس فيها المغني الشاب "المواء"، في نداء تزاوج بدائي على طريقة السنوريات، يتناسب مع شبه الكلمات التي يرددها الصوت المعدل رقمياً، لكن ذلك لم يكن ليعني شيئاً، مقابل الشعبية الطاغية للأغنية، والاحتفاء الفضائي بها في كل قناة تحصد أموالها من الرقص البوهيمي، الذي يكاد يعصف بكل تقنيات الصورة الجديدة، من الكريستال والبلازما وحتى الأبعاد الثلاثية. كل ما سبق ليس دفاعاً عن الفن الهابط، ولا حمية مستثارة بسبب التهجم على فن يفتخر به المجتمع، فهو بكل حال منفصل عنه وبشكل حاد، بل ويسير في مسار منكوس من حيث مواكبة للحضارة في مشاهد أخرى علمية وأدبية وفنية، لكن هذا أيضاً لا يمنعني من أن أتساءل بجدية عما يجعل من لغة واحدة عرضة للانتقاء؟. لم ينتقد مشهد ثقافي تحية المواء، بينما يرى في أغنية ي"موء" بها المغني دلالة على الانحطاط الفني الذي نعيشه، والذي لا يجادل أحد بشأنه كثيراً. هل هي الطبقية ذاتها التي ترى في الفن شعبية وجماهيرية تجسد فكر دهماء الناس؟، وفي الثقافة نخبوية تستحق الاحترام والتسامح والرهبة؟، هل هي سياسة الكيل بمكيالين التي يعاني منها مشهدنا الثقافي في كثير من مفاصله؟. الكثير والكثير من الأسئلة تتفرع، لكنني لا أستطيع أن أطيل أكثر من ذلك، فصديقي المثقف ينتظرني في مقهى قريب، حيث نرتشف قهوة الكابتشينو واللاتيه التي يستلذها جداً، على الرغم من أنه يكره القهوة العربية، لأن لونها فاتح جداً!. * للإحاطة: التحية هي: مياو الخير - مياو عليكم (هيلدا إسماعيل)، الأغنية: قلب قلب (محمد السالم).