أصبح علم استشراف المستقبل اليوم من أهم العلوم الإستراتيجية للمؤسسات الكبيرة والدول التي تضع خططها المستقبلية بناء على قراءة لتطور أحوال الناس، والاهتمام بهذا العلم يزداد يوماً بعد يوم حيث إن هذه الفعاليات هي بحق الحد الفاصل بين المؤسسات التي تبقى وتزدهر والأخرى التي تذوب وتندثر. والتأريخ الحديث مليء بالأمثلة عن المؤسسات التي اندثرت بسبب عدم اهتمامها بدراسة المستقبل أو قراءتها الخاطئة لتطورات المستقبل وفشلها في اتخاذ المواقف المطلوبة التي تمكنها من الاستعداد للفرص والتحديات المستقبلية. على أن وسائل استشراف المستقبل لم تكن دائماً من أبواب العلوم الرصينة، حيث لجأ الإنسان القديم إلى وسائل غيبية تعينه على سد حاجته الفطرية المتمثلة في حب الاطلاع ومعرفة المستقبل طمعاً في الخلود. ولقد كان إرصاد مواقع النجوم من أقدم الوسائل التي استخدمها المنجمون في سبيل معرفة المستقبل، وهذه العادة معروفة منذ زمن العراقيين الأوائل وذكرها القرآن الكريم في سياق قصة إبراهيم عليه السلام عندما رفض الخروج مع قومه في عيدهم وآثر أن يبقى في المدينة لكي يحطم الأصنام التي يعبدونها من دون الله، فكان العذر الذي برر فيه تخلفه عنهم أنه نظر في النجوم التي دلت على أنه سوف يمرض، "فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم"(الصافات 88-89). إن الرغبة في معرفة المستقبل حاجة فطرية وحيثما وجدت الحاجة فلا بد من وسائل لسدها بغض النظر عن دقة النتائج أو صحتها. ومحاولة معرفة المستقبل لم تكن حكراً على العراقيين الأوائل، فقد ظلت الأجيال ليومنا هذا تعتمد النظر في النجوم واستخدام "قراء الطالع". ومن مشهور الأخبار التي حفظها التأريخ والأدب قصة موقعة عمورية المشهورة التي حدثت في زمن الخليفة المعتصم بالله العباسي وبدأت بحادثة اعتداء على امرأة مسلمة في تلك المنطقة من بلاد الترك التي نادت بصوت عال "وامعتصماه"، فتناقلت الألسن هذه الاستغاثة حتى وصلت إلى الخليفة المعتصم الذي أقسم بالله أن يفتح المدينة استجابة لتلك المرأة، لكن المنجمون نصحوه بأن ينتظر لأوان نضج الفاكهة لانه الوقت الوحيد الذي دلت عليه النجوم، فأبى الاستماع إليهم وتوجه إلى عمورية متوكلاً على الله وفتحها. وقد أرخ هذه الموقعة المشهورة الشاعر العربي الكبير أبو تمام بقصيدته الرائعة التي رد فيها على أدعياء معرفة المستقبل من خلال قراءة النجوم، وهذه بعض أبياتها: السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصفائح في متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين، لا في السبعة الشهب أين الرواية، بل أين النجوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصا وأكاذيبا ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب والقرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالأمثلة على استقراء المستقبل وحث المسلمين على إدراك معاني المتغيرات العالمية والأستفادة منها، ولعل من أوضح الأمثلة فواتح سورة الروم "الم*غلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم" (الروم 1-5) وهذه الآيات تتحدث عن حال المسلمين في مكة عندما كانوا يتابعون الصراع بين القوى العالمية الكبرى آنذاك ممثلة بالإمبراطوريتين الفارسية والرومية، حيث يذكر الطبري في تفسيره رواية عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " الم . غُلِبَتْ الرُّوم . فِي أَدْنَى الْأَرْض " قَالَ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَر أَهْل فَارِس عَلَى الرُّوم لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْل أَوْثَان ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَر الرُّوم عَلَى فَارِس لِأَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْر فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْر لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ) فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْر لَهُمْ فَقَالُوا : اِجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَجَعَلَ أَجَل خَمْس سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:(أَلَا جَعَلْته إِلَى دُون)- أَرَاهُ قَالَ الْعَشْر - قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيد: وَالْبِضْع مَا دُون الْعَشَرَة. قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّوم بَعْد، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْله" الم. غُلِبَتْ الرُّوم - إِلَى قَوْله - وَيَوْمئِذٍ يَفْرَح الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّه". قَالَ سُفْيَان: سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْم بَدْر". فهذه الآيات إذاً تنبأت إلى حادثتين مهمتين في مستقبل الحركة الإسلامية وهما انتصار الروم على الفرس وانتصار المسلمين في موقعة بدر الكبرى. وكما قلنا فإن استشراف المستقبل يوفر لصناع القرار فرصة وضع الخطط والاستعداد لما هو آت، إما بالتنبيه لخطر داهم ومحاولة تفاديه أو بإدراك فرصة متاحة ينبغي الاستفادة منها، وهذا بالتحديد ما فعله السلطان العثماني محمد الفاتح عندما درس في صغره حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" وهو الحديث الذي بدون شك قرأه الكثير من الأمراء والرؤساء من قبله، لكن قليلا منهم حاول أن يعمل شيئاً في سبيل تحقيق هذه الفرصة المستقبلية التي بقيت بانتظار الفاتح الذي جعل من هذه القضية محور الحكم الاستراتيجي الذي تدور رحى الدولة بأجمعها حوله لكي ينال ذلك الشرف العظيم. فإذا كان هذا العلم على هذه الدرجة من الأهمية، ولم تكن "قراءة الطالع" أو "النظر في النجوم" من الوسائل المعتبرة، فما هي إذاً الوسائل التي يستخدمها الخبراء في هذا المجال؟ وبادئ ذي بدء نقول بأن معرفة السنن الكونية من أنفع وأقوى الوسائل التي تمكن الإنسان من استشراف ما سيكون، يقول تعالى "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " (آل عمران-137) ويقول الطبري في تفسيره الآية وَأَمَّا السُّنَن، فَإِنَّهَا جَمَعَ سُنَّة، وَالسُّنَّة، هِيَ الْمِثَال الْمُتَّبَع، وَالْإِمَام الْمُؤْتَمّ بِهِ، يُقَال مِنْهُ: سَنَّ فُلَان فِينَا سُنَّة حَسَنَة، وَسَنَّ سُنَّة سَيِّئَة: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا اُتُّبِعَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْر وَشَرّ، وَمِنْهُ قَوْل لَبِيد بْن رَبِيعَة: مِنْ مَعْشَر سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْم سُنَّة وَإِمَامهَا إذاً فالسنن الكونية هي عبارة عن قوانين إلهية تسري على البشر وهي نافذة يمكن التعرف عليها من خلال الأمثلة من حياة البشرية التي سبقت. ومنها مايسميه مؤسس علم الاجتماع العالم الكبير ابن خلدون "قانون هلاك الظالم" والذي ذكر في القرآن الكريم في مواطن عديدة منها "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا" (الكهف-59) وهذا القانون الإلهي الذي يقضي بحتمية هلاك الأمم التي يستشري فيها الظلم، وهذا القانون فيه استثناء واحد هو "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود-117) أي إن الاستثناء الوحيد الذي يحول بين الأمة التي يستشري فيها الظلم وحتمية الهلاك هو وجود المصلحين، ولعل ذلك يكون لإعطاء المصلحين الفرصة لتحقيق الإصلاح أو إكراماً لهم، علماً بأن هذا الاستثناء لا يمنح لأهل "الصلاح" وذلك لقوله صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي أخرجه البخاري عندما سألته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث". والسنن الكونية تدرك من الكتاب والسنة وكذلك من دراسة التأريخ، فهناك أحداث متكررة وأمور تنبئ عما سيأتي، ولقد صدق شوقي رحمه الله حين قال: إقرأ التأريخ إذ فيه العبر ضل من ليس يدري أين يأتيه الخبر وهذه المعرفة لا تأتي من الدراسة السطحية للتأريخ، وإنما من الدراسة المنهجية التحليلية القائمة على فهم وإدراك راسخ للسنن الربانية وفعلها في الأمم. بالإضافة إلى ما سبق نذكر وسيلة أخرى لاستشراف المستقبل وهي دراسة الوجهة المستقبلية للمتغيرات وذلك بمتابعة بعض المعايير المهمة التي يجب عدم إغفالها لأنها تنبئ بالمستقبل. فعلى سبيل المثال دراسة نسبة المواليد في الأمم ومقارنة ذلك بنسب الوفيات وارتفاع معدلات الأعمار التي تعطي فكرة واضحة عن الزيادة السكنية لعقود طويلةا وهذه الدراسة تكون هي الأساس لمعرفة حاجة الدولة إلى بناء المدارس وتوفير فرص العمل للأجيال القادمة ووضع الخطط المناسبة لذلك. وعلى نفس الشاكلة تكون دراسة معدلات النمو الاقتصادي في الدول وخصوصاً الكبيرة منها والتي تنبئ عن حدوث متغيرات كبيرة في عوالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وهذه النتائج تستوجب أخذ العدة والاستعداد لها قبل فوات الأوان. ومع ذلك فلا يمكن الجزم بإمكانية التنبؤ بجميع الظواهر الكونية، فهناك ما يسمى بالظواهر اللاخطية (Non-linear Phenomenon)، ومنها على سبيل المثال ظاهرة الأرصاد الجوية التي حاول عالم الأرصاد الجوية (إدوارد لورينتز) دراسة إمكانية التنبؤ بالتغيرات التي تحدث في الطقس. حيث طور نموذجا لمحاكاة تحولات الطقس مؤلفا من مجموعة معادلات لوصف المتغيرات الجوية حيث يقوم من خلالها بتوقع نظري للتغيرات التي تحدث في الطقس بحسب الشروط الأولية التي توضع. لكنه اكتشف أن النتائج تختلف بشكل كبير إذا ما حصل أي تغيير ولو كان طفيفا في نقطة البداية. ومن هذه الفكرة، استنبط هذا العالم بأنّه من المستحيل توقع الطقس بدقّة. على أية حال، قادَه هذا الاكتشاف إلى تشكيل النظرية التي عرفت لاحقا بنظرية الفوضى Chaos Theory. * سفير العراق لدى المملكة