قبل أن أعلق على خبر عن شاب لقي حتفه في الصمان، أشير إلى أن العاشقين للتجوال في الصحراء والمهتمين بطبوغرافيتها لديهم معرفة بما يسمى الدّحُول(جمع الدَّحْل)، وهي كهوف طبيعية على شكل تجويفات ممتدة تحت سطح الأرض بشكل أفقي (ممرات أرضية) أو رأسي يشبه هيئة البئر، ويعتقد أنها نشأت منذ آلاف أو ملايين السنين بفعل تسرب مياه الأمطار عبر شقوق في الأرض ثم أدى ترسّب المياه واختلاطها مع بعض الأحماض والعناصر الطبيعية إلى تآكل الصخور وإذابة التربة فنتجت هذه التجاويف الطبيعية. وتختلف فوهات الدحول فمنها ضيقة سعتها أقل من المتر ومنها واسعة يمكن أن تبتلع شاحنة كبيرة. وتوجد الدحول في مناطق مختلفة خاصة في شمالي المملكة لكنها تتركز بشكل أكثر كثافة في هضبة الصمان. وإذا ذكرت الدحول تبادر إلى أذهان المهتمين بالأدب الشعبي قصة الشاعر المشهور راشد الخلاوي فيما قيل إنه أراد اختبار ذكاء ابنه في الاستدلال على المكان من وصف شعري يتضمن علامات واتجاهات ومسافات معينة، فأخفى الخلاوي بندقيته في أحد دحول الصمان وقال: عن طلحة الجودي تواقيم روحه عليها شمالي النسور يغيب وعنها مهب الهيف رجم وفيضه وحروري إن كان الدليل نجيب وترى دليله مروة فوق جاله خيمة شريف في مراح عزيب وليس لدي مصدر - رغم أن هذا ليس موضوعنا- يفيد عما إذا كانت السيول قد جرفت البندقية أو أن أحد المارة الذين استقوا من ماء الدحل التقطها! وثمة بلدانيين وباحثين - ومنهم زميلنا القدير سعد الحافي - اهتموا بتحديد المكان، فبعضهم توصل إلى أن الخلاوي قصد الدحل المعروف باسم الهدسي، وغيرهم قال هو دحل(أبو مروة) وليس لدي أيضا معلومة عما إذا كان الابن نبيها عرف المكان(وغاص) في الدحل وجلب البندقية أم أنه على شاكلة بعض الشباب المهووسين مؤخرا في ركوب هواية المغامرة باستكشاف الدحول والغوص في تجاويفها الخطرة على غير هدى دونما معرفة دقيقة بطبيعتها أو بنوع المعدات والأدوات التي ينبغي توافرها قبل خوض المغامرة. قديما، كانت الحاجة الملحة تجبر أبناء الصحراء على الوصول إلى أعماق الدحول باعتبارها مصدر مياه، وربما اقتحموا دهاليزها الضيقة والمظلمة يدفعهم الجوع لهدف الظفر ببعض أنواع طرائد الصيد التي تلوذ فيها مع ما يحف هذا الأمر من مخاطر اختباء السباع. لكن حاليا- وأقول من واقع مشاهدات ميدانية – إن الدحول، وفي الصمان تحديدا، ليس فيها شيء من ذلك، فالماء نضب وطرائد الصيد والسباع قضي عليها تماما على مر العقود القليلة الماضية، فأصبحت الكهوف الصحراوية وبخاصة الرأسية مكبا تلقى فيها الحيوانات النافقة(والقرنبعات) من السيارات القديمة والقمامة والأخشاب والأدوات الأخرى المهملة. أعود إلى الخبر الذي أشرت إليه في بداية المقال؛ حيث أوضح الناطق الإعلامي لمديرية الدفاع المدني بالمنطقة الشرقية أن شابا عشرينيا لقي مؤخرا مصرعه في دحل ذي فوهة تبلغ سعتها ثلاثة أمتار وبعمق ثلاثين مترا شمال محافظة قرية العليا (الصمان) بعد أن نزل بغرض القنص حسب إفادة مرافقيه! وأن أحد رجال الإنقاذ تعرّض - بعد انتشال جثة الشاب - لإجهاد بسيط أُدخل بسببه المستشفى! فيما يجري التحقيق للتأكد من ملابسات الحادث. أشرت إلى أن هناك هواية تنمو حاليا بشكل محدود بين شباب من محبي الترحال البرّي، تلك هي الاستكشاف بدخول الدحول، لكن الهواية أو(المغامرات) مرشحة للتوسع من واقع استنتاج ومتابعة نشاط هؤلاء في الفضاء الإنترنتي. وأرى أن معظم(المستكشفين الشباب)يقتحمون التجويفات الأرضية فقط بدافع مغامرة غير محسوبة النتائج أو دون إدراك لطبيعة المخاطر التي قد يقعون في مهالكها، ابتداء من احتمال التعرض للانهيارات الأرضية مرورا بعدم تحمل جسم الإنسان الرطوبة العالية ونقص نسبة الأوكسجين في باطن الأرض وليس انتهاء باحتمال عدم القدرة على تحمل طول الفترة الزمنية إذا تاه المغامر ولم يستدل على المخرج في ظلمة الدهاليز المتشابكة المسكونة بالثعابين السامة. إذا ما العمل لمساعدة هؤلاء كي يحموا أنفسهم؟ ربما يلوّح أحدهم بالاعتراض فيتجه اتجاها سلبيا ويقول: على نفسها جنت براقش، فالإنسان العاقل لا يعرّض نفسه للمهالك، لكن هذا الاعتراض حتما سيكون بالاتجاه المعاكس لو كان ابنه أو قريب له واحدا من الأبناء المغامرين المعرضين للفقد في الدحول المكشوفة. وقد ينبري من يقول(الدفاع المدني ما هو ناقص حتى نطالبه بحماية ممارسي الغرائب في مجاهل الصحراء). أقول من واقع متابعة لتطور جهاز الدفاع المدني في المملكة أنه قادر على التعامل مع هذه المشكلة باتخاذ إجراءات وقائية مبكرة قبل استفحال المشكلة، ولا أشك أن بإمكانهم - كخطوة أولى - العمل سريعا على انجاز قاعدة بيانات عن الدحول، فلدينا الخرائط والصور الجوية الدقيقة وبعض المصادر المعتبرة التي رصدت الدحول منها كتاب الكهوف الصحراوية الصادر عن هيئة المساحة الجيولوجية وكتاب من جزأين عن دحول الصمان للأستاذ سعد الشبانات فضلا عن أن الهواة أنفسهم وفرّوا صورا ومعلومات ورصدا دقيقا عن أماكن الكهوف خاصة ذات الفوهات الخطرة. وعلى ضوء قاعدة المعلومات تأتي الخطوة الأخرى في تعامل الفرق الميدانية إما بردم الدحول تماما، أو وضع الحواجز واللوحات التحذيرية على الدحول التي ترى هيئة المساحة الجيولوجية والهيئة العامة للسياحة والآثار أهمية بقائها وعدم ردمها. وأتصور إذا رافق ذلك شيء من الأنشطة الخاصة والرسائل والبرامج الإعلامية التوعوية المؤثرة سوف نساعد (المغامرين) على حماية أنفسهم.