ومن هنا، فإن الأممالمتحدة قد مثلت في جوهرها ذروة العملية الدستورية الكاملة التي تفصح عن حدود مفهوم النظام الدولي، وتشير من ثم إلى حالة الانتقال نحو مفهوم جديد للعلاقات الدولية. في الثامن من أيار - مايو 1945 توقف إطلاق النار بعد ست سنوات على حرب عالمية خلفت وراءها ملايين القتلى. وبذلك انتهت الحرب في الجبهة الأوروبية . إن هذا اليوم يشكل أهمية خاصة لحقبة معينة بالنسبة لكل البلدان، لأنه يشكل تحولاً في تاريخ العالم بل بداية جديدة في مسار البشرية . وقد شارك هذا الأسبوع أكثر من خمسين من زعماء العالم في إحياء الذكرى الستين لانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وذلك في احتفالات كبيرة أقيمت في العاصمة الروسية موسكو . وتعد الحرب العالمية الثانية من الحروب الشمولية وأكثرها كُلفة في التاريخ البشري . ولاتّساع بقعة الحرب وتعدد مسارح المعركة كانت دول كثيرة طرفاً من أطراف النزاع. وقد حصدت الحرب العالمية الثانية زهاء خمسين مليون نفس بشرية بين عسكري ومدني، أي ما يعادل 2٪ من تعداد سكان العالم في ذلك الحين. وقد استمرت الحرب من 1939 حتى 1945، حيث انتهت باستسلام اليابان وتوقيعها المعاهدة النهائية في 15 آب - أغسطس 1945، وفي أوروبا انتهت الحرب في الثامن من أيار - مايو مع توقيع ألمانيا معاهدة الاستسلام . ولقد اضطر الوفد الألماني إلى قبول الاستسلام غير المشروط في مقر قيادة الجنرال الأميركي أيزنهاور، وأرسل القائد الألماني بلاغا إلى قواته معلنا إن القتال سيتوقف في الثامن من أيار مايو في الساعة الحادية عشرة ليلاً. وبناء على طلب من الزعيم السوفياتي جوزف ستالين وقعت اتفاقية الاستسلام مرة ثانية في التاسع من أيار مايو. بيد أن الانتصار الذي يحتفل العالم بمرور ستين عاما عليه هو انتصار مختلف عليه، بل إن الخلافات تبدو اليوم ظاهره على نهايات الحرب نفسها . لقد كشفت استطلاعات للرأي العام أن ثلثي الروس يعتقدون أن الاتحاد السوفياتي كان بوسعه هزيمة هتلر دون مساعدة الحلفاء، وأن نصفهم يعتقد أن الغرب يهون اليوم من المساهمة السوفياتية في تحقيق النصر. و تشير الاستطلاعات إلى أن التاسع من أيار مايو يعد يوم العطلة الثاني الأكثر تقديراً عند الروس بعد عيد رأس السنة. وهناك 70٪ من المواطنين الذين يعتبرون يوم النصر أهم يوم وطني ويريدون الاحتفاظ به كعطلة رسمية . وخلافاً لهذا استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلغاء العطلة الرسمية في السابع من تشرين الثاني نوفمبر التي تصادف تسلم الشيوعيين للسلطة في العام 1917. وعلى الصعيد الرسمي، تعتبر روسيا نفسها القوة الرئيسية التي لعبت دوراً محوريا في تحرير أوروبا، كما يعتبر المؤرخون الروس معركة ستالينغراد المعركة الأولى في الحرب العالمية الثانية التي تم فيها إلحاق هزيمة نكراء بالجيش النازي، ولذلك فهي مثلت «بداية النهاية» للرايخ الثالث ولاحتلال برلين في العام 1945. ولقد جاء التشديد الروسي الرسمي هذا العام على أن الجيش الأحمر كان «محررا وليس قامعا» لشعوب أوروبا الشرقية في ظل الانتقادات العنيفة التي وجهها لروسيا جيرانها في دول البلطيق بسبب محاولاتها الإشادة بستالين في هذه المناسبة، إذ أزيح أخيرا الستار عن تمثال لستالين في غرب سيبيريا، حيث اعتبرته السلطات المحلية «ابن روسيا العظيم الذي منح روسيا كل ما يملكه». وثمة أوساط عدة في أوروبا تشير إلى أن انتصار الحلفاء جلب الأنظمة الستالينية إلى شعوب شرق القارة. وينسجم هذا الشعور مع إعلان الاتحاد الأوروبي بأن سقوط جدار برلين في العام 1989، وليس القضاء على ألمانيا النازية في العام 1945، هو الذي يمثل النهاية الحقيقية للدكتاتورية في أوروبا. ويرى هؤلاء أن انتصار الحلفاء جلب التعاليم الستالينية الدكتاتورية إلى ملايين الأوروبيين الذين يعيشون في الشرق. وحسب هذا الرأي تخلصت أوروبا من دكتاتور شرس وطاغية لتحصل على دكتاتور آخر لا يرحم هو ستالين . وهذا أيضا ما أشار إليه الرئيس الأميركي جورج بوش هذا الأسبوع في ليتلاند عندما تحدث عن تاريخ الجيش السوفياتي الأسود.وقد ذكر الرئيس بوش في رسالته التي وجهها إلى الرئيسة اللاتفية فايرا - فيكي فرايبرغا أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت تعني بدء احتلال استونيا ولاتفيا وليتوانيا. وقد جرى هذا العام رفع القرار الذي يتطرق إلى الاحتلال السوفياتي لدول البلطيق إلى مجلس الشيوخ الأميركي . ولم تعترف الولاياتالمتحدة بضم الاتحاد السوفياتي لبلدان البلطيق في العام 1940، وأدانت هذا الحدث بشكل علني خلافا للأوروبيين الذين لم يقدموا مثل تلك التصريحات. كما سجل الجانب الأميركي هذا الموقف أثناء التوقيع على المحضر الختامي في هلسنكي في العام 1975 . إلا أن واشنطن لم تصف حينها حوادث العام 1940 على أنها احتلال. أوروبيا، أشار رئيس المفوضية الأوروبية غونتير فيرهويغين إلى أن على روسيا أن تعترف بحقيقة احتلالها غير الشرعي لدول البلطيق الثلاث إذا ما رغبت بدعم علاقات حسن الجوار مع الاتحاد الأوروبي. على صعيد تطورات الحرب في آسيا، صرح الرئيس الأميركي ترومان بعد هزيمة ألمانيا في الثامن من أيار مايو 1945 بأن علم الحرية يُرفرف في أوروبا لأنها تحررت من الظلم لكن الشرق مازال يرضخ تحت نيران الجيش الياباني . وكانت اليابان قد أعلنت اليابان في 28 تموز - يوليو من ذلك العام عدم اعترافها باتفاقية بوتسدام التي أبرمها الحلفاء، لكنها أرغمت في النهاية على قبول الاستسلام دون قيد أو شرط . بيد أن دور القوى المختلفة في إنجاز النصر في آسيا يعد هو الآخر أمرا مختلف عليه . وتحديدا، فان دور الصين في الانتصار على اليابان ودور الولاياتالمتحدة في الصين بعد الحرب لا زال أمرا سجاليا . فقد اشتكى الخبراء الصينيون لمدة طويلة من كتب التاريخ الغربية لأنها بحسب تقديرهم لم تتطرق بشكل عام لأهمية الدور الصيني في الحرب العالمية الثانية، وعندما تذكر هذه الكتب دور الصين فإنها تقصّر في معالجته بالتفصيل . وتقول الصين إنها تكبدت في الحرب العالمية الثانية من 20 إلى 25 مليون قتيل، بينما يقدر هذا العدد في الغرب على الأغلب بعشرة ملايين قتيل، إضافة إلى ذلك فقد لقي 1,3 مليون جندي ياباني حتفهم على الأراضي الصينية. والتعليل الصيني الرسمي يقول إنه نظراً للمقاومة الصلبة اضطرت اليابان إلى نقل القسم الأكبر من جيشها إلى الصين مما أدى إلى عدم مقدرتها على وضع المزيد من قواتها المسلحة ضد الولاياتالمتحدة. والمعروف أن القوات اليابانية سيطرت في 7 تموز يوليو عام 1937 على جسر ماركو بولو بالقرب من بكين بعد معركة دامية مع المدافعين الصينيين. وقد حددت هذه المعركة بحسب رأي الصينيين بداية الحرب العالمية الثانية عندما تصدت القوات الصينية ولأول مرة للقوات اليابانية المتواجدة في الصين. ويدعوا الصينيون هذه الحرب أيضاً «بحرب التحالف العالمي ضد فاشية دول المحور ألمانيا وإيطاليا واليابان». وإن «حرب المحيط الهادي» مثلما يعرفها الغربيون، والتي قامت بين اليابانوالولاياتالمتحدة، هي في نظر الصينيين نتيجة منطقية للحرب اليابانية الصينية. وهناك مؤيدون لوجهة النظر القائلة بأن الحرب العالمية الثانية بدأت فعلاً في الصين وانتهت هناك. لكن مناوئي هذا الرأي ينتقدون هذا التقييم ويجدون فيه قبل كل شيء تقليلا من دور ألمانيا في نشوب الحرب . ولولا استسلام ألمانيا النازية في الثامن من أيار مايو 1945 لاستمرت الحرب الأميركية- اليابانية ومعها الحرب العالمية الثانية في آسيا لمدة تزيد بالتأكيد عن الأربعة أشهر. هذه هي النظرية السائدة في الغرب لأَنَّ هزيمة القوات الألمانية وضع الولاياتالمتحدة في حالة تتمكن فيها من التركيز على حربها ضد اليابان، وهذا ينطبق أيضاً على الجيش الأحمر السوفياتي، فلولا سقوط برلين في أيار مايو لاستحال على السوفيات إعلان الحرب ضد اليابان في شهر آب أغسطس 1945. والحقيقة أن كلٌ يقرأ التاريخ من منظاره، وعلى سبيل المثال، فالكثير من الفلبينيين الذين نجوا من مجازر الجيوش اليابانية يعتبرون أن انتهاء الحرب لم يكن فقط بسبب استسلام ألمانيا، وإنما بسبب قتالهم ودفاعهم المستميت عن أرضهم. ولولا ذلك حسب وجهة نظرهم لما تمكن الحلفاء من حسم المعركة. ولا زالت المعارك اليابانية في آسيا تلقي بظلالها على الكثير من المجتمعات التي تضررت منها. ويتظاهر كل يوم أربعاء العديد من النساء أمام السفارة اليابانية في سيؤول لمطالبة طوكيو بتعويض المتضررين والاعتراف بذنبها وجرائمها في الحرب. وبالإضافة إلى غزوها الصين، كانت القوات اليابانية قد قامت بغزو دول جنوب شرق أسيا تزامناً مع قصفها ميناء بيرل هاربر الأميركي . وبالتحديد، قامت القوات اليابانية بغزو كلٍ من ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة والفلبين في محاولة منها للسيطرة على حقول النفط . كما خضعت كوريا وتايوان للاحتلال الياباني. وقام اليابانيون أيضا بغزو غينيا الجديدة وجزر سليمان، و«بريطانيا الجديدة»، و«ايرلندا الجديدة» في المحيط الهادئ . وخلال مؤتمر باندونغ الأخير، قدم رئيس الوزراء الياباني جونيشيرو كيوزومي اعتذاراً عن العدوان الذي شنته بلاده ضد الدول الآسيوية خلال الحرب العالمية الثانية . بيد أن هذا الاعتذار، الذي جاء على خلفية تظاهرات كثيفة ضد اليابان شهدتها عدة مدن في كوريا والصين، لم يغير الشي الكثير على صعيد قراءة الآسيويين للتجربة التاريخية اليابانية والخشية من تكرار الماضي بصورة أخرى . وربما تتبدى هذه المسألة بصفة أكثر وضوحا في الصين التي لا تزال متشبثة برفضها حصول اليابان على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وفي أقوى معارضة رسمية تبديها حكومة بكين لمساعي اليابان في هذا الاتجاه، طالب رئيس الوزراء الصيني، وين جياباو طوكيو بمواجهة الفظائع التي ارتكبتها إبان الحرب العالمية الثانية قبل أن تتوق للعب دور دولي. وجاءت تصريحات ياباو كمؤشر قوي على أن الصين قد تلجأ لاستخدام حق النقض «الفيتو» لإجهاض مساعي اليابان. ولحصول طوكيو على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، يتوجب على المجلس تعديل دستوره الأمر الذي سيتيح للصين فرصة سانحة لاستخدام الفيتو لوقف هذا التعديل على الرغم من أن بكين تجنبت حتى اللحظة الإشارة صراحة إلى إمكانية لجوئها لذلك. وأيا تكن القراءات الخاصة بالحرب العالمية الثانية ودور القوى المختلفة فيها، فالثابت هو أنها كانت مفصلا تاريخيا في مسار البشرية، وهي قد أعادت توزيع القوة في النظام الدولي كما أعادت تشكيل قمته . لقد زعزعت نتائج الحرب دعائم نظام السيطرة الاستعمارية القائم على الاضطهاد العرقي والقومي والاستغلال، وساعدت على النهوض العام للقوى المناهضة للفاشية في العالم . وقبل مشاركة الولاياتالمتحدة في الحرب كانت بريطانيا الدولة الوحيدة المقاومة لألمانيا النازية، وكانت دولة عظمى عالمياً بيد أن دورها أخذ يتراجع . وهكذا آلت أحوال فرنسا . وقد صرح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بعد انتهاء الحرب أن الولاياتالمتحدة اعتلت قمة العالم . وقد جاءت هذه التصريحات لتدل على وضع أميركا المتغير، حيث تحولت خلال خمس سنوات من بلد منعزل إلى قوة عظمى. واستطاع الرئيس ترومان نقل الولاياتالمتحدة إلى الساحة الدولية لتشغل مراكز مهمة في المنظمات العالمية، هذا الدخول اعتبر تنفيذا متأخرا لخطط الرئيس السابق وودرو ويلسون، حيث كانت الولاياتالمتحدة إحدى الدول المؤسسة للأمم المتحدة ولصندوق النقد الدولي إضافة للبنك الدولي ولحلف الناتو ومنظمات عالمية أخرى. وجاء تأسيس الأممالمتحدة غداة نهاية الحرب بمثابة إعادة تأكيد وتعزيز للنظام الدولي القانوني النامي، الذي كان أوروبياً بالأساس فتحول إلى عالمي. ومن هنا، فإن الأممالمتحدة قد مثلت في جوهرها ذروة العملية الدستورية الكاملة التي تفصح عن حدود مفهوم النظام الدولي، وتشير من ثم إلى حالة الانتقال نحو مفهوم جديد للعلاقات الدولية. وكان إنشاء الأممالمتحدة بمثابة تأكيد للتطلع نحو إيجاد هيئة دولية يمكنها المساعدة على منع قيام الحروب والنزاعات، أو تطويقها حين نشوبها، وتشجيع التعاون الدولي على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي بصفة خاصة. وكان ميثاق الأممالمتحدة قد استوحى الكثير من جوهره من الدروس التي تم استنباطها من تجربة عصبة الأمم . وقد كانت نتائج الحرب العالمية الثانية على العلاقات الدولية واسعة وعميقة، حيث حدث تبدل كلي وتام في موازين القوى في آسيا وأوروبا، كما على الصعيد الدولي العام لتمركز القوة . بيد أن التداعيات الأكثر ارتباطا بمفاهيم العلاقات الدولية قد تمثلت في نتيجتين أساسيتين هما بروز الثنائية القطبية ونشوب الحرب الباردة . وفي مرحلة ما سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، فرضت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر نفسها كفاصل تاريخي في مسار العلاقات الدولية، وهي أولى الأحداث الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وبالطبع لم يكن الحدث بحجم هزيمة دول المحور أو انهيار جدار برلين، لكنه يبقى مفصلا تاريخيا في بيئة النظام الدولي، بمعنى قدرته على إعادة صوغ التحالفات الثنائية والمتعددة، وإعادة تشكيل الاستقطاب السياسي والاستراتيجي في اتجاهات عدة.