"عبقرية الشرق، أوروبا الحديثة وفنون الإسلام" عنوان معرض جديد يقام حالياً في "متحف الفنون الجميلة" في مدينة ليون الفرنسية ويكشف مرّةً أخرى عن تأثير الفنون الإسلامية خلال القرن العشرين على الفنون الأوروبية وعلى عدد من مبدعيها الكبار الذين طبعوا بأعمالهم مسيرة الفنّ الحديث. يؤرّخ المعرض لاهتمام الأوروبيين بالفنون الإسلامية، وقد بدأ هذا الاهتمام عند نهاية القرن الثامن عشر وتَواصل في النصف الأول من القرن التاسع عشر حين بدأت المتاحف الكبرى بتكوين مجموعاتها الخاصة من التحف الإسلامية، ومنها "متحف اللوفر" في باريس و"المتحف البريطاني" في لندن. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر زار الكثير من الفنانين والمعماريين المدنَ التاريخية في العالم الإسلامي، وأنجزوا لوحات ورسوماً كانت بمثابة وثيقة للصروح المعمارية التي شاهدوها. صدرت تلك الأعمال في وقت لاحق في كتب تعدّ اليوم مراجع أساسية لمعرفة حال هذه الصروح والتحف التي تحتويها، وذلك قبل اكتشاف التصوير الفوتوغرافي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ويؤكّد منظّمو المعرض أنّ إنجازات المعماريين والفنانين الرحّالة شكّلت أعمالاً رائدة لكل المهتمين بالفنون الإسلامية لأنها سجّلت أدقّ التفاصيل ومنها العناصر المعمارية والمفردات الزخرفية التي اعتمدت عليها الفنون الإسلامية. في هذا الإطار، يتوقّف المعرض عند أعمال عدد من الفنانين المستشرقين المعروفين ومنهم الفرنسي جان ليون جيروم الذي تمتّع بشهرة كبيرة في حياته وكان من ألمع الفنانين الأكاديميين الكلاسيكيين في القرن التاسع عشر. سافر إلى مصر وفلسطين والجزائر وتركيا، واستوحى من مشاهداته العديد من أعماله الفنية التي تمحورت حول مواضيع متنوّعة، فرسم الرجال وهم يؤدّون الصلاة في الجوامع، كما رسم الفرسان والجنود على أحصنتهم، والحمّامات العامة وأسواق الجواري. يبيّن المعرض أيضاً كيف أنّ بعض الفنانين والمعماريين كانوا يجمعون، خلال إقامتهم في المدن الإسلامية، التحفَ ويحملونها معهم إلى أوطانهم، يضعونها في منازلهم ومحترفاتهم، ويسهمون في التعريف بالفنون الإسلامية وقيمها الجمالية. ترافق اكتشاف الفنون الإسلامية في أوروبا مع انتشار الثورة الصناعية التي طبعت كافّة مظاهر الحياة العامة ومنها الفنون. وقد شهدت الفنون الزخرفية في أوروبا تحوّلات كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكان المشرفون عليها يريدون تطويرها حتى تصبح قادرة على مواجهة تحديات الحضارة الصناعية الجديدة. أما العاملون في هذا القطاع فقد وجدوا في الفنون الإسلامية مصدراً أساسياً من مصادر التجديد، ومنهم الكاتب والناقد والمعماري البريطاني ويليام موريس، رائد حركة "الفنون والصناعات"، والمعروف بإعجابه الشديد بتحف الفنون الإسلامية التي تعرّف عليها في لندن. وكان يسوِّغ إعجابه بالقول إنها جمعت، وبأسلوب فريد، بين القيم الجمالية المميّزة والحرفية العالية. أما في فرنسا فبرز اسم المعماري فيولي لودوك الذي طبع برؤيته وآرائه الطليعية المشهدَ المعماريّ الفرنسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأعاد الاعتبار إلى عمارة القرون الوسطى، كما ساهم في ترميم العديد من صروحها، وكان معجباً بالفنون الإسلامية. وقد كان لأفكاره تأثير كبير على عدد من تلامذته الذين وجدوا في العمارة الإسلامية عناصر كثيرة ساعدتهم في تجديد أعمالهم ورؤيتهم لفنّ العمارة بشكل عام. سعى منظّمو معرض "عبقرية الشرق، أوروبا الحديثة وفنون الإسلام" إلى الإحاطة بمجمل النتاجات الفنية الأوروبية التي تجلى فيها تأثير الفنون الإسلامية ومنها الفنون التشكيلية كما أشرنا. في هذا السياق، يتوقّف المعرض بشكل خاصّ عند تجربة كلّ من الفنان الفرنسي هنري ماتيس والسويسري بول كلي. يُعَدّ الأول أحد أكثر الفنانين الغربيين المحدثين الذين عبروا عن إعجابهم بالفنون الشرقية ومنها الفنون الإسلامية، وهو الذي قال إنّ "الشرق أنقذنا" بعد اكتشافه لتلك الفنون التي ساعدته على تكوين رؤيته الخاصة للفنّ ومكّنته من الإجابة على العديد من الأسئلة الأساسية في هذا المجال وفتحت أمامه أبواب الحداثة. لقد كان لاكتشاف الفنون الإسلامية دور أساسي في مسيرة ماتيس الإبداعية بعد أن شاهد المعارض التي خصصت لها في باريس عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومنها المعرض الكبير الذي أقيم لها في "متحف الفنون الزخرفية" عام 1903. ولكي يعمّق معرفته بهذه الفنون زار المعرض الذي أقيم لها في مدينة ميونخ عام 1910، وسافر إلى الأندلس للتعرف على آثارها ومنها جامع قرطبة. كذلك سافر إلى المغرب وقد شكّل اكتشافه لذاك البلد تحوّلاً بارزاً في مسيرته الفنية لأنّه فتح أمامه آفاقاً لم يعهدها من قبل. أما الفنان السويسري بول كلي فكان، مثل ماتيس، محباً للسفر ومنفتحاً على الحضارة الإسلامية وفنونها. ومن المؤكد أن الرحلة التي كان لها الأثر الأكبر على توجّهاته الفنية والجمالية كانت عام 1914 عندما سافر إلى تونس مع صديقيه لوي مواييه وأوغيست ماك. وقبل أن تطأ قدماه تونس كان كلي مطّلعاً على نتاجات كثيرة تعكس خصوصية الحضارة الإسلامية، وكان قرأ "ألف ليلة وليلة" و"رباعيّات الخيام" وأشعار حافظ الشيرازي. وعلى الرغم من الأيام القليلة التي قضاها في تونس فقد أحدث اكتشافه للعمارة الإسلامية وللفنون المرتبطة بها في مدينة القيروان والعاصمة تونس والحمّامات وسيدي بو سعيد تحوّلاً جذريًا في توجّهاته الفنية والجمالية. وفي تونس أيضاً، كتب عبارته الشهيرة: "أسَرَني اللون. لا أحتاج إلى البحث عنه. فهو لي إلى الأبد. أعرف ذلك: أنا واللون واحد." معرض "عبقرية الشرق" يقدّم شهادة رائعة عن أثر الفنون الإسلامية في الإبداع الغربي وفي حركة الحداثة الأوروبية، ولإبراز ذلك اعتمد المنظّمون على لوحات ووثائق نادرة وعلى تحف إسلامية تمّت استعارتها من متاحف فرنسية وأوروبية وأمريكية، وكشفت، رغم الحروب وحركة الاستعمار، عن ثراء الحوار الثقافي بين الشرق والغرب، كما أكّدت أنّ الحداثة الأوروبية لم تكن لتتحقّق بالصورة التي هي عليها الآن لولا الانفتاح على الحضارات الأخرى غير الأوروبية.