الغرض ليس انتقاد (او تسفيه) اّراء الآخرين بل الغرض هو المشاركة في اثراء وصقل الأفكار الجيّدة التي يطرحها بعض المتخصصين في وسائل الإعلام لتكون الصورة واضحة للذين يضعون خطط التنمية (كوزارة التخطيط)، لأنه من حقّ هذه الجهات ان تعرف ان كل ما تأمل تحقيقه من المستقبل الزاهر لاقتصاد المملكة هو أقرب ما يكون الى اضغاث الأحلام لأنه مبني على افتراض واحد هو ان البترول سيبقى مصدر هذا الازدهار بينما في الحقيقة ان البترول مورد ناضب اذا لم نبدأ منذ الآن في وضع خطة سليمة لترشيد انتاجه وترشيد صرف ايراداته بتوجيهها الى ايجاد مصادر دخل حقيقية (ليست اموالا سائلة أو ما يسميه البعض صندوق الأجيال) فكل هذه الوعود ستذهب ادراج الرياح. البترول، كما يعرف الجميع، هو دم الحياة لاقتصاد المملكة فهو أهم كثيرا من ان يترك اتخاذ قرارات سياسات استخراج البترول وتصديره للقطاع الخاص (اي تحويل ارامكو الى شركة أو شركات مساهمة كما يقترح الدكتور الدخيل) لأن البترول ثروة جاهزة تملكها الأمة بكاملها ومن الخطأ نقل ملكية هذه الثروة (أو حتى مجرد حق التصرف فيها)، الى القطاع الخاص. والحكومة باعتبارها ممثلة للأمة هي خير من يستطيع أن يقدّر الصالح العام ويتخذ القرارات السليمة بالنسبة لاستخراج وتصدير وصرف ايرادات مورد حسّاس يعتمد عليه اعتمادا كليا اقتصاد البلد ولا يصح ان تتحكم في مصيره مصالح القطاع الخاص. هذا الكلام ليس وجهة نظر خاصة من عندي انا فقط. وانما هو كذلك ماتوصل اليه بعض أشهر علماء الاقتصاد الذين لهم باع طويل في الكتابة عن الموارد الناضبة أمثال سولو (حاصل على جائزة نوبل عام 1987) واستيقلتز (حاصل على جائزة نوبل عام 2001) وداسقوبتا، وهيل وغيرهم كثير من علماء الأقتصاد. حيث أثبتوا في دراساتهم أن تحديد المسار الأمثل لاستخراج المورد الناضب يتطلب ان يخضع لجهود واعية من هيئة للتخطيط (بالنص:Conscious effort of a planning board) وإلا سيساء استغلال المورد ولن يتم تحقيق المسار الأمثل لأستخراجه. لماذا القطاع الخاص غير مؤهل للاستغلال الأمثل للموارد الناضبة؟ لأنه كما يعرف كل من لديه المبادئ الأولية في اقتصاديات الموارد الناضبة أن سعر الخصم Discount rate يلعب الدور الأساسي في تحديد مسار استخراج المورد الناضب عبر الزمن، بينما القطاع الخاص اولا: يستخدم أسعار الفائدة كمعيار وحيد لسعر الخصم بغض النظر عن التكاليف الاجتماعية. وثانيا: يقلّل تقدير قيمة الزيادة في معدل سعر المورد وهو في باطن الأرض لأنه يعرف أنه معرض - في أي وقت - لسحب امتياز حقوق الاستخراج (او تغيير شروط الامتياز) وبالتالي سيحاول أن يستنزف اكبر كمية ممكنة بأسرع وقت ممكن على حساب نصيب المالكين للمورد (سواء الجيل الحالي أو ما سيأتي بعدهم من الأجيال القادمة). بينما هيئة التخطيط المركزية الرشيدة (Planning Board) يجب ألا تستخدم أسعار الفائدة (لاسيما التي تستطيع تمويل عملياتها ذاتيا لرخص تكاليف انتاج بترولها ولا تحتاج للاستدانة كأرامكو) وانما تستخدم معدلات العوائد من استثمار ايرادات المورد في بناء تنمية مستدامة كمعيار لسعر الخصم. وكذلك تعرف أن ملكية المورد مهما طال الزمن فإن زيادة معدلات سعره في باطن الأرض تعتبر نموا للثروة من نوع ما يسمى Capital gains (اي مكاسب راس المال). الفرق كبير بين الهدفين فالشركات الخاصة هدفها تعظيم المكاسب الآنيّة لكبار ملاك أسهمها. أما هيئة التخطيط الرشيدة فهدفها تعظيم المنافع للأمة اليوم وغدا، وبالتالي يختلف مسار استخراج المورد اختلافا جذريا ففي حالة القطاع الخاص سيدفع باستخراج اكبر كمية اليوم لأن الغد غامض بالنسبة له. أما بالنسبة لهيئة التخطيط الوطنية فالمستقبل واضح على مدى عمر المورد. الواقع انه حتى المزيّة الوحيدة التي قال الدكتور انها ميزة للقطاع الخاص فهي ليست ميزة بل عيبا فهو يقول بالنص: "تحويل ارامكو الى شركة او شركات مساهمة.. سيرفع الضغوط السياسية التي تمارسها بعض الحكومات الاجنبية لزيادة الأستخراج او خفض الأسعار". لأنه اذا كانت توجد فعلا الآن ضغوط من بعض الحكومات الأجنبية فهي تحدث بالطرائق الودية وتبادل وجهات النظر (غالبا بشكل غير معلن) بين المنتجين والمستهلكين لضمان مراعاة مصالح الطرفين. أما الشركات الخاصة فهي لا تتمتع بالحصانة السيادية التي تحظى بها الحكومات وبالتالي ستكون الشركات عرضة لضغوط أقوى وقد يصبح من السهل مقاضاتها قانونيا باسم الأحتكار (أرجو اذا كان يوجد واحد من القراء متخصصا في القانون الدولي ان يقول لي صدقت يا ابو علي). موضوع عمود الأسبوع القادم - ان شاء الله - سيكون عن ما يسمى: صندوق الأجيال القادمة. * رئيس مركز اقتصاديات البترول "غير هادف للربح".