لم يدرك «عيد» ذو الوجه المتعرج -الذي لا يحمل من الفرح سوى اسمه- بعد أن تجاوز العقد السادس من العمر؛ أن نهايته سوف تكون السكن في حديقة أو على الرصيف، وأن المجتمع سوف يرفضه حتى من أقرب الناس إليه؛ بسبب رفضه الزواج في بداية حياته. ومثل «عيد» كثير ممن جمعتهم الظروف نفسها، وتلاقوا على رصيف الحياة أو داخل حديقة أو في مقهى؛ ليتجاذب معهم أطراف الحديث عن أسباب رفضهم للزواج أو فشلهم في إعادة المحاولة لطلب الزواج لمن فشل منهم في أول مرة وانتهت معه بالانفصال. «شيبان» يسكنون الأرصفة والحدائق و«عجائز» مازلن على قائمة الانتظار تلك الوجوه الشاحبة كانت تتخافت في سرد ذكرياتهم المريرة مع بعضهم البعض في العزوف عن الزواج، أو الفشل فيه من أول مرة -قبل أن نقطع عليهم ذكرياتهم المريرة-، وهم ينتظرون في بعض الحدائق وعلى الأرصفة لعابر طريق ينظر إليهم بعين الشفقة، ويقدم لهم وجبة غذاء، حيث اكتفت بعض الجهات المعنية بدراسة مشكلاتهم بإدراج أسمائهم ضمن قائمة ذوي الظروف الخاصة من المسنين أو الهائمين أو غيرهم.. "تحقيق الرياض" يتناول اليوم معاناة "الرجال العوانس"، ونهاية بعضهم غير المتوقعة، والظروف المحيطة بهم، ومدى حاجتهم للمساعدة، والوقوف بجانبهم، ودراسة أوضاعهم الاجتماعية والنفسية. سالم: العزوبية قاتلة قصص مؤلمة في بداية جولتنا استوقفنا منظر ذلك الستيني الذي يجلس تحت شجرة في إحدى الحدائق وقت الظهيرة، واسمه "عيد"، وأخذ يسرد لنا ذكرياته المؤلمة، وهو يعتصر جراحه، وقال: في بداية شبابي لم أكن أرغب في الزواج، وبعد أن تجاوزت سن الأربعين لم أجد من ترضى بي، وكنت أعمل في ذلك الوقت في "الحراج" بالبيع والشراء، ويكفيني ما يسد يومي، ولم يكن لي هدف في حياتي، وأقضي وقتي مع بعض المعارف، وأصبح كل منهم عندما يتزوج ويرزق بأولاد ينفصل عن "الشلة"، وهاهي حياتي اليوم كما تشاهد أنام في الحديقة ولا أجد من يعينني على ظروف الحياة حتى من أقرب الناس!، وأعيش على صدقات الناس، وهناك مجموعة من الأشخاص لهم الظروف نفسها. نحتاج إلى منح الشباب الأولوية في «التوظيف» و«القروض» و«السكن» وتفعيل قيم التكافل والتخفيف من التكاليف من جانبه التقينا "صالح" -الذي لا تختلف ظروفه عن عيد سوى أنه قد تزوج وانفصل بعدها مباشرة-، وقال: "طلقت زوجتي بعد أسبوع من زواجنا، ورفضت مبدأ الزواج بعد ذلك، وأصبحت أنتقل بين المدن، حيث عملت في أكثر من عمل، واليوم أصبح الناس تنفر مني!، وفي النهاية وجدت نفسي في هذه الحديقة". ويروى "سالم" حكايته عندما رفض الزواج في بداية شبابه، وأصبح اليوم يتنقل بين إخوانه، وعندما يشعر أنهم يتضايقون من تواجده بينهم وبين أبنائهم يهرب إلى النوم في الحديقة، وقال:"كل ذلك لأني لم أتزوج، ويكون لي أولاد يساعدونني بعد هذا العمر"، مشيراً إلى أن الراتب التقاعدي يكفي مصروفه، ولا قيمة له بدون أولاد!. عيد: تمنيت الزواج ولكن.. حالة "عيد وسالم وصالح" ليست سوى نماذج مصغرة من قوائم "عوانس الرجال" التي تخفيها بعض الدراسات الاجتماعية، وقوائم التعداد السكاني، ويبقى السؤال ما أسباب المشكلة؟، وما مخاطرها على المجتمع؟. د.الزبن: متوسط سن الزواج ارتفع ليتجاوز الثلاثين تنامي الظاهرة وقال "د.إبراهيم بن محمد الزبن" -أستاذ علم اجتماع الجريمة المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- "إن من الظواهر الاجتماعية التي شاعت في الآونة الأخيرة تأخر سن الزواج بين الشباب، حيث ارتفع السن بشكل ملحوظ ليتجاوز الثلاثينات ويشارف على سن الأربعين"، مشيراً إلى أن العوامل التي أدت إلى حدوثها غير معروفة؛ إذ لا توجد دراسات وأبحاث علمية يمكن الاعتماد عليها في تحديد حجمها والأسباب التي أدت إليها، إلاّ انه يلاحظ أن هناك شبه إجماع بين الباحثين في المجتمعات العربية على تأثير العوامل الاقتصادية المتمثلة بضعف مستوى الدخل، وقلة الموارد الاقتصادية مع ارتفاع تكاليف الزواج ومتطلباته الأساسية من توفير المسكن الملائم، وتكاليف المعيشة والتعليم والعلاج وغير ذلك من المتطلبات المعيشية اليومية. جلسة «أرذل العمر» تنتهي تحت «شجرة العنوسة» وأضاف أن تأثير العوامل الاقتصادية في المجتمع السعودي ليست بنفس الوضوح وقوة التأثير أسوةً بالمجتمعات العربية الأخرى، بل إنه مع ارتفاع مستوى الدخل واستقرار الظروف الاقتصادية لكثير من الأسر؛ نجد أن الأبناء لا يقبلون على الزواج، ومن هنا نحتاج إلى فحص تأثير العوامل الأخرى الثقافية والاجتماعية والنفسية كأسباب مؤثرة على اتخاذ قرار الزواج أو عدم الزواج بين الرجال المصنفين في المجتمع السعودي "بالرجال العوانس". د.الرشود: الفتيات أكثر معاناة و«العامل الاقتصادي» مؤثر وأشار إلى أن من ابرز العوامل الثقافية المحفزة للزواج في المجتمع السعودي العامل الديني، حيث يستمد البناء الثقافي للمجتمع السعودي الكثير من مقوماته من الدين الإسلامي الذي يرفض العنوسة، ويعد ترك الزواج عن عمد مكروه شرعاً؛ إلاّ انه يلاحظ أن تأثير الضابط الديني في المجتمع السعودي بدأ ينحسر مما قلل من حجم تأثيره، وقد صاحب ذلك أيضاً ضعف تأثير بعض العادات والتقاليد الدافعة لزواج الشباب في سن مبكرة. أسباب المشكلة وحول الأسباب المؤدية لمشكلة عنوسة الرجال، قال "د.الزبن" إن من أهم العوامل الاجتماعية التي ساهمت في ارتفاع معدلات العنوسة بين الشباب اختلال قيمة الزواج المبكر؛ نتيجة عدم الإحساس بأهميته، إلى جانب خوف المتعزبين من المسؤوليات المترتبة على الزواج ورغبتهم بالتمتع بعدم الارتباط، خاصةً مع زيادة المغريات التي يتعرضون لها في حياتهم اليومية دون قيود الزواج والالتزامات المالية والاجتماعية المتعلقة به. وأضاف أن هناك أسباباً نفسية ينبغي عدم إغفالها، ترتبط بالخوف من الانتقال من وضع أسري إلى وضع آخر، وما قد يصاحب ذلك من مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية، حيث تُقلق هذه المخاوف الشاب المقدم على الزواج، بدءاً من اختيار الزوجة التي يفترض حسب رؤيته أن تكون مناسبة له ولأسرته، مروراً بمراحل الإعداد للزواج، وانتهاءً بالانتقال إلى بيت الزوجية الذي يضع له مواصفات محددة تبُنى في الغالب على رؤية غير واقعية، مستمدة من تجارب الآخرين أو من مصادر معلومات أخرى يؤسس وفقاً لها رؤيته لحياته الأسرية. وأشار إلى أن هذه الأسباب المؤثرة على اتخاذ قرار الارتباط بالعلاقة الزوجية تؤدي إلى تأخر سن زواج الرجال في المجتمع؛ بعضها تعتبر عوامل تقليدية ترتبط بتغيير ثقافة المجتمع وما أدت إليه من حدوث العديد من التغيرات، ومنها: ظهور قيم اجتماعية جديدة مرتبطة بحرية الشباب في اتخاذ قرار الزواج باعتباره شأناً خاصاً بهم، وميلهم إلى الاستقلال في السكن والمعيشة، والتركيز على الاهتمام بتأمين الوضع المادي وإكمال التعليم الجامعي والالتحاق بالوظيفة لتحقيق الوضع الاقتصادي المرغوب، وميلهم لاختيار الزوجة التي تتسم بصفات معينة من حيث مستوى التعليم والعمل، بحيث يكون لديها دخل اقتصادي يمكنها من المشاركة في تحمل تكاليف الحياة الأسرية، وبالمقابل غياب أو عدم الاهتمام ببعض السمات التقليدية في الاختيار للزواج التي كانت تسهل عملية الزواج وتعجل به. عيد: تجاوزت «الأربعين» ولم أجد من ترضى بي وقال:"مما يدعم هذه الأسباب التقليدية العوامل المستحدثة التي من أهم مصادرها العولمة، وما فرضته من تحول اجتماعي وثقافي وانفتاح اقتصادي صاحبه تغيرات اقتصادية كان لها تأثير واضح في تغيير أنماط معيشة الأسرة، كما أن للإعلام بوسائله وطرقه المختلفة تأثيراً واضحاً على تغيّر النظرة لقيمة الزواج بين الشباب وأهميته في حياة الفرد والمجتمع، مما شجع على ذلك أن الفتيات أنفسهن تأثرن بما يبث في وسائل الإعلام عبر المسلسلات والأفلام والبرامج من عدم أهمية الزواج، واستبدال هذه النظرة برؤية مختلفة تؤكد على التعليم والعمل والاستقلالية وتأجيل موضوع الزواج حتى تحقيق هذه المكانة الاجتماعية، وقد صاحب ذلك الاختلاط في بالمجتمعات والثقافات الأخرى من خلال السفر خارج المملكة، وبالتالي ظهور بدائل أخرى لدى الشباب؛ فبدلاً من الزواج من المواطنة السعودية وشروط أسرتها المكلفة اقتصادياً -أحياناً-، ينتظر أن تتاح فرص الزواج من الخارج كبديل مناسب بغض النظر عن التبعات الثقافية والاجتماعية". سالم: أسكن عند أخي وأتألم من الشعور بمضايقتهم التحولات الاجتماعية من جانبه أوضح "د.عبدالله بن سعد الرشود" -أستاذ الخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن الزواج هو الوسيلة الوحيدة لتكوين الأسرة، وتهيئة الاستقرار الأسري، وإمداد المجتمع بأعضاء جدد مما يسهم في استمراره، كما أنه يؤسس روابط قرابية ورحمية، ويمثل الالتزام بنسق الضوابط الاجتماعية في تفعيلها, مشيراً إلى أن الظروف المعيشية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية فرضت خطراً من نوع خاص بات يلاحق كثيراً من الأسر، مستهدفاً الشباب المسلم من الجنسين الذكور والإناث، ويتمثل في تأخير سن الزواج أو ما يسمى العنوسة. د.إبراهيم الزبن وقال إن ظاهرة العنوسة بالنسبة للفتيات أكثر منها بالنسبة للشباب، وربما يرجع ذلك إلى أن الذكور أكثر جرأة على طرح مشكلتهم من الإناث، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة أفرزتها مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، حيث تختلف في تأثيرها على النظام الأسري ككل والنظم المتفرعة عنه، كنظام الزواج، وطرق الاختيار وسن الزواج. وأضاف أن التحولات الاجتماعية وارتفاع مستوى المعيشة فرضت أنماطًا جديدة في سن الزواج وتكاليفه المادية أيضاً، إلى جانب تأثير العادات والتقاليد السيئة التي تفرض نفقات باهظة على الزوج باسم المظهر الاجتماعي الكاذب المصحوب بحب الظهور، وطبيعة المجتمع وتركيبته ودرجة تدينه وتقبله لقيم الإسلام ومبادئه، وضعف الوازع الديني، المغالاة في المهور، ارتفاع تكاليف أجور السكن المستقل، الخوف من الفشل بعد الزواج، عدم وجود معلومات ومهارات لتكوين أسرة مستقلة، الاستسلام لمنطق العقلية الغربية الاستهلاكية التي تؤمن بضرورة توافر الكماليات، الخوف من تحمل المسؤولية، والسفر للخارج ليعيش حياته كما يزعم البعض، صعوبة اختيار شريك الحياة، تحكم الأهل في الاختيار والخوف من التعرض لمشكلات مالية في المستقبل، الانشغال بعناصر الحياة التكنولوجية الحديثة، وبصفة عامه تطور الحياة وتعقيد متطلباتها. د.عبدالله الرشود وأشار إلى أن ظاهرة العنوسة خطيرة على المجتمع ولها تأثيراتها المختلفة على المجتمع بصفة عامة وعلى الجنسين من أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً فلها تأثيراتها الاجتماعية والنفسية والصحية والاقتصادية والدينية والأخلاقية ويكون تأثير العنوسة على النساء أكثر من تأثيرها على الرجال, وذلك بسب أن الرجال يمكن لهم الزواج حتى في سن متأخرة وقرار الزواج في أمرهم ولديهم القدرة على تحمل الوحدة والعزلة ومشاق الحياة, أما بالنسبة للنساء فيقل فرص الزواج بهن كلما تقدم بهن العمر وقرار الزواج ليس بأيديهن في غالب الأمر بل في أيدي الاباء أو أولياء أمورهن, بالإضافة إلى خجلهن وعدم قدرتهن على التعبير عن أحتياجتهن بهذا الخصوص وصعوبة عيشهم في الوحدة والعزلة فيكون تأثيرها عليهم بشكل أكبر من الرجال. حلول عاجلة ولمواجهة مشكلة عنوسة الرجل، دعا "د.الزبن" إلى وضع حلول مساعدة للتخفيف من هذه الظاهرة، وأهمها توعية أفراد المجتمع، من خلال تعاليم الدين الإسلامي حول مشكلة تأخر سن الزواج، حيث أكد الإسلام على أهمية الزواج للرجل، والنظر للزواج على أنه وسيلة لتكوين الأسرة المسلمة المستقرة وليس وسيلة لتحقيق المكاسب المادية أو المعنوية، إلى جانب الحد من تأثير بعض العادات والتقاليد التي تخلق بيئة غير صالحة للزواج؛ خاصة وأن معظم هذه العادات مستمدة من العرف وليس الدين، ومنها مثلاً تمكين الخاطب من النظر للمخطوبة بالطريقة الشرعية، مما يسهم في تحفيز الشباب على الزواج، إضافة إلى ذلك ضرورة التقليل من حجم التكاليف المالية والمتطلبات المادية والشروط المرهقة للزواج. وقال:"من أهم المحفزات ضرورة تفهم المجتمع لحاجات الشباب وتوفير الدعم المالي لهم"، مقترحاً أن يحظى الشباب المقبلون على الزواج بالأولوية في توفير الفرص الوظيفية والقروض الحكومية والسكن الميسر، إلى جانب تفعيل قيم التكافل الاجتماعي لمواجهة التحديات التي تواجه الشباب، والتخفيف من تكاليف الزواج بتوفير البدائل المناسبة، كذلك توفير الفرص الاجتماعية المناسبة لتيسير زواج الشباب والفتيات في ضوء تعاليم الشريعة الإسلامية، وما تعارف عليه المجتمع من عادات وتقاليد وقيم اجتماعية مقبولة.