إن أشرف ما اعتُني به من الكتب على وجه الأرض، كتابُ الله تعالى الذي أنزله ليكون هداية ونوراً للناس، وقد كفل له الحفظ إذ قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر/9]، وذلك يعم في متعلقه صيانتين صيانة من الفقد، فلا شيء من كتاب الله يخشى عليه من الضياع أو التضييع بتاتاً، وصيانة من أن تطاله يد التحريف والتزييف التي طالت بعض الكتب من قبله. وإذا أراد الله سبحانه شيئاً هيأ له أسبابه، وأمضى أقداره المبرمة من خلالها، وإذ ذاك فقد هيأ عز وجل من عباده من شرفهم بمهمة الإسهام في حفظ كتابه الكريم، فقيض لرسوله صلى الله عليه وسلم ثلة من صحابته الكرام لكتابة الوحي، فرقموه فيما تيسر وتوفر آنذاك من صفائح الجلود والعظام واللخاف والرقاع، إذ لم يكن ورق الكاغد متوفراً إلا بصورة نادرة. ثم قيض الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ، في أثناء خلافته، لجمع القرآن في مصحف واحد، وقيض عثمان بن عفان رضي الله عنه ، في خلافته، لتوحيد المصحف الذي أصبح يدعى فيما بعْدُ المصحفَ الإمام، واستنساخ نسخ منه أرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ويسر الله تبارك اسمه لرجال حفظوا كتابه واستودعوه بين أضلعهم، من الصحابة والتابعين ومن سائر القرون التي تَلَتْهُم، إلى يومنا هذا، فحفَّاظ كتاب الله لا يُحصون كثرةً. وهيأ سبحانه أئمة اشتغلوا بالقراءات القرآنية، فتعلموا وجوهها بالتلقين والمشافهة، متصلة السند من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وتصدى بعضُ العلماء لجمع ما اشتهر من تلك القراءات في الأمصار، فدونوها وحرّروها وضبطوا ما فيها من اختلاف الروايات والطرق والوجوه. وجند قوماً آخرين صرفوا اهتمامهم لتفسير كتابه العزيز، وبيان ما في آياته من التأويل. فمنهم المقتصر على جمع المأثور من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. ومنهم المستوعب لتفسيره آيةً آيةً، بتلخيص ما ورد من المأثور وزيادة تفسير ما غبر بالرأي وفق ما دلت عليه الألفاظ من المعاني في استعمال العرب، بمعونة قواعد الفهم المستفادة من الفقه العام للشريعة. ومن تمام حفظ الله لكتابه أن جنَّد قوماً اشتغلوا بجمع علوم القرآن، وترتيبها وتحريرها، لتكون بطاقة تعريف بكل ما يتعلق بكتاب الله من معلومات، كتاريخ نزوله والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وترتيبه في المصحف سوراً وآيات، وتعشيره، والأحرف التي نزل عليها، والقراءات، وما إلى ذلك. ومن شُعب علوم القرآن علمُ رسم المصحف، وهو معرفة الصفة التي تُكتب بها كلمات القرآن، فإنها لا تتبع دائماً القواعد الإملائية المعروفة، بل يتقيد في ذلك بالرسم الذي كُتب به المصحف الإمام بأمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز تغييره، إمعاناً في صون كتاب الله وحفاظاً عليه بصورته التي دون عليها أول مرة قدر الإمكان. ولما انتشرت طباعة الكتب، وحلت محل النسخ اليدوي، وكانت كلمات المصحف مرسومة على نحو خاص بتمييز الحروف المحذوفة في الرسم دون اللفظ، أو في الوقف دون الوصل، حيث أثبتت مصغرة، بالإضافة إلى علامات التجويد والوقف والابتداء، وبعض الرموز الخاصة بكيفية نطق بعض الكلمات. لما كان الأمر كذلك تعذَّر أن يطبع المصحف بطريقة التنضيد العادي، وتعين أن يُطبع بطريقة التصوير لصفحاته المكتوبة بخط اليد. وكان في ذلك فضل من الله تعالى على بعض من وهبهم جودة الخط وجماله، بكتابة نسخة كاملة من المصحف الشريف وفق إحدى الروايات التي يقرأ بها الناس اليوم، كرواية حفص عن عاصم، وورش عن نافع، وتقديمها للطباعة لإخراج ألوف النسخ منها، بعد إجازتها من إحدى الجهات المسؤولة عن الرقابة والتدقيق في طباعة المصاحف، وفي ذلك من الشرف والفضل ما فيه. وإن الملتقى الذي ينظمه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، لأشهر كَتَبَةِ المصاحف في العالم، أحد المناشط العلمية والفنية التي يضطلع بها المجمع في خدمة كتاب الله تعالى ، بمشاركة عدد كبير من كَتَبَة المصحف الشريف؛ لتبادل الآراء، وعرض التجارب في تحسين أشكال الحروف التي يخطونها، وإبراز جماليات تركيبها، وتحقيق ما يسميه أهل الفن بالنسب الفاضلة، وما يرونه من محاولة التوفيق بين معاييرها. وقد أصدر المجمع بهذه المناسبة كتاباً وثائقياً قيَّماً، أحصى كتبة المصحف الشريف في مختلف أنحاء العالم، كما رصد المشاركين في هذا الملتقى، من الأفراد والجهات الحكومية والمؤسسات، وكذا الفعاليات والمناشط التي تتم في هذه المناسبة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله. ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف صرحٌ من الصروح العظيمة التي تحمل اسم الملك فهد بن عبدالعزيز أغدق الله عليه شآبيب رحمته وقد تعهدها بالرعاية طوال حياته، وتواصلت هذه الرعاية على أوفاها وتمامها، في عهد أخيه وخلفه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله - حفظه وأعانه - بتوفير كل ما يحتاج إليه المجمع من خدمات وتجهيزات، في مواصلة عمله في توسع وتحسن مستمرين. ولا يعد هذا المجمع فخراً للمملكة العربية السعودية فحسب، بل هو فخر للأمة قاطبة يعتز به كل مسلم، حيث يعد أكبر مطبعة للمصحف الشريف وما يتصل به من علوم خدمية، أسس في دار الإيمان، والمدينة التي فتحت بالقرآن، منذ ما يزيد على ربع قرن، ومن يومئذ وهو ينتج سنويًّاً ما متوسطه عشرة ملايين نسخة من المصحف الشريف، يزود بها المسلمين في مختلف القارات، معتمداً في ذلك على أحدث ما وصلت إليه تقنيات الطباعة في العالم، إلى جانب ما يقوم به من التسجيل الصوتي للقرآن الكريم، بمختلف الروايات المشهورة اليوم، حفص وورش وقالون والدوري، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى أكثر من أربعين لغة، والعناية بعلوم القرآن الكريم، و"السيرة النبوية"، وبالبحوث والدراسات الإسلامية. بارك الله في هذا المجمع، وأمد القائمين عليه بالعون والتوفيق، وجعله من أسباب الخير والأمن والأمان على المملكة وأهلها، وقادتها الذين ما فتئوا يسارعون في الخيرات، لا يسألون من يندبهم إليها على ما قال برهاناً، لا سيما في خدمة كتاب الله وسنة رسوله، ونشرهما بين أبناء الأمة بمختلف الوسائل، وكذا نشر أمهات كتب الإسلام ودواوينه العظام. وهذا من الأمر المعهود في هذه المملكة المباركة، التي توحدت تحت راية التوحيد، وأسست على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واتخذتهما منهاجاً لها، تعمل بمقتضاه، وتسير على هديه، ولا تزال ماضية في هذا الطريق بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أعانه الله وسدد خطاه. *الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عضو هيئة كبار العلماء