عانى علم التاريخ من النظرة السلبية في مجتمعنا، جهلاً بأهمية هذا العلم وضرورته لأمن الأمة، وحقوقها وتاريخها، وثقافتها، وموروثها. ومن المؤسف ان يمتد الجهل بهذه الأهمية إلى الأكاديميين في التخصصات الأخرى، خاصة العلمية منها، وقد يكون بعضهم مسؤولين وصناع قرار، وهذا له محذور قد يضر بتخصص التاريخ في المملكة. فنحن نعلم ان الجامعات العالمية عندما تحرص على أقسام التاريخ فيها لا تجامل منسوبي تلك الأقسام، بل لأنها تدرك أهميته وضرورته التي أشرنا إليها. ومن هذا المنطلق سوف أسلط الضوء على قسم التاريخ في واحدة من أهم المؤسسات الأكاديمية التقنية في العالم، وهو معهد ماساتشوستس للتقنية Massachusetts lnstitute of Technology لعلنا ننجح في تبيان أهمية علم التاريخ لمن يفتقرون إلى ادراكها. نشأ المعهد في خمسينات القرن التاسع عشر الميلادي، وقبل أول طالب فيه في عام 1865م. وتركز اهتمامه منذ نشأته حول العلوم التطبيقية، خاصة الهندسة واستمر على ذلك إلى خمسينات القرن الماضي، فتحول من معهد يهتم بالهندسة فقط، إلى الاهتمام بمختلف العلوم. وقد رأى المعهد أن من مصلحة طلبته (الذين يدرسون العلوم التطبيقية) إدخال الدراسات الإنسانية ضمن برامجه إذ لم تدرس به مواد إنسانية أبداً قبل ذلك، عدا مادة واحدة في الفلسفة. ثم بدأ باستقطاب المتميزين في الحقول الإنسانية، ولعل من أبرزهم نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) الأب الروحي للدراسات اللغوية الحديثة. ولعلك تتساءل: لماذا يحتاج دارس العلوم البحتة إلى دراسة العلوم الإنسانية؟ ودعنا نلتمس الإجابة في رسالة المعهد نفسه، إذ يرد فيها: «إن رسالة معهد ماساتشوستس للتقنية ان يرتقي بالمعرفة، ويعلم الطلبة العلوم (التطبيقية)، والتكنولوجيا ومجالات علمية أخرى، مما يخدم الأمة والعالم بالشكل الأمثل في القرن الحادي والعشرين». ولعلنا نُضيف إلى ذلك رسالة كلية العلوم الإنسانية بالمعهد ورؤيتها، التي يرد فيها: «للكلية دور رئيس في التعليم العالمي بالمعهد (MIT)، وفي تهيئة الطلبة للقيادة.. ويكتسب الطلبة (في الكلية) منظوراً ثقافياً وتاريخياً وفكراً نقدياً، ومهارات اتصال، مما يعد أساساً للنجاح». ويرد فيها كذلك: «ولمعرفة المعهد بقيمة التعليم متعدد الجوانب فإنه يوفر لجميع طلبة مرحلة البكالوريوس أرضية متعمقة في الدراسات الإنسانية، من الفنون والعلوم الاجتماعية، ان العمق في المنظور والفهم الذي ينتجه الارتباط بهذه التخصصات، لهو من ضمن العلامات المميزة للتعليم في المعهد (MIT)». وقد تفاجأ بأن الجميع طلبة مرحلة البكالوريوس، بمختلف تخصصاتهم (الهندسة والإدارة والعلوم والتكنولوجيا والعلوم الصحية)، يفرض عليهم ان يدرسوا ثماني ساعات في العلوم الإنسانية والفنون. ويحق لنا ان نسأل أيضاً: لماذا يقلل البعض هنا في المملكة العربية السعودية من شأن دراسة التاريخ وغيره من الدراسات الإنسانية، على الرغم من اعجاب المسؤولين في التعليم العالي عندنا بمعهد (MIT)؟ لعل ذلك راجع - كما لحظته بنفسي - إلى أن هؤلاء المنتقصين من شأن دراسة التاريخ لا يدركون ان المعرفة تراكم وتكامل. إن أشهر جامعة تقنية في العالم تقدم مثل هذه التخصصات لادراكها التام لهذه الحقيقة، ففيليب خوري، عميد كلية الدراسات الإنسانية فيها لمدة خمس عشرة سنة، يقول: فشل المعهد في ترسيخ فكرة أنه ليس مقتصراً على العلوم التطبيقية فقط، وإنما هو للمعرفة بجميع حقولها. وان فيه برنامجاً قوياً جداً في العلوم الإنسانية. ويضيف: «كلما وجدت شخصاً متفاجئاً من وجود تخصصات إنسانية في معهدنا (MIT)، أدركت أنه لابد من ان نبذل مزيداً من الجهد، ليتعرف العالم أكثر على إمكانياته». ولكن ما حجم قسم التاريخ في المعهد؟ وهل هو قسم مساعد، يقتصر على تدريس مواد تاريخية خدمة للتخصصات الأخرى؟ أم أنه قسم رئيس يمنح درجات علمية عالية في التاريخ؟ كانت نشأة قسم التاريخ في المعهد متزامنة مع نشأة كلية الدراسات الإنسانية في أواخر خمسينات القرن الماضي. وكان حتى عام 1989م، يعد قسماً مساعداً يدرس أساتذه مواد التاريخ لطلبة الجامعة من مختلف التخصصات. وهو الآن يمنح درجة البكالوريوس، ويمنح درجات الدراسات العليا بالتعاون مع البرامج الأخرى في الجامعة. أما الحقول التي يغطيها القسم، فهي: التاريخ القديم، والوسيط والحديث والتاريخ الوطني الأمريكي، أي بعبارة أخرى: هو قسم كامل كأي قسم للتاريخ في أي جامعة أمريكية. والفائدة التي نستخلصها من تجربة معهد تختص أساساً في الدراسات التقنية، هي أهمية جميع العلوم، بلا استثناء، لاثراء المعرفة الإنسانية. فعندما يتباحث الفيزيائي مع اللغوي والمهندس مع المؤرخ والطبيب مع الاقتصادي، ينتج عن ذلك مناخ علمي نادر، وتلاقح في الأفكار تنتج عنه نظريات ودراسات تغير حقول المعرفة تغييراً جذرياً، كما نبه إلى ذلك نعوم تشومسكي، الذي غيّر مفهوم علم اللسانيات في القرن العشرين، في حديثه بمناسبة مرور 150 سنة على إنشاء (MIT). وأخيراً، بعد ما استعرضته عن معهد (MIT) واهتمامه بقسم التاريخ، والعلوم الإنسانية الأخرى، على الرغم من أنه معهد تقني - فإنني أدعو المسؤولين وصناع القرار في جامعة الملك سعود والجامعات السعودية الأخرى، إلى مراجعة تصورهم ونظرتهم إلى أقسام التاريخ لدينا، فهي خيار استراتيجي للجامعات وللوطن، وجدير بأن يلقى كل اهتمام. *رئيس قسم التاريخ بجامعة الملك سعود --------------------------- # المعلومات الواردة في هذا المقال مستقاة من موقع الجامعة http://www.mit.edu وموقع كلية الدراسات الإنسانية http://shass.mit.edu والمقابلات الشخصية مع أعضاء هيئة التدريس المتوافرة على موقع الاحتفال بمرور 150 عاماً على إنشاء الجامعة http://mit50.mit.edu.