لعل من المفارقات العجيبة أن يتناول اثنان من العلماء قضية واحدة والفاصل الزمني بينهما يربو على الخمسمائة سنة. فالتاريخ يعتبر من التخصصات الإنسانية الهامة جداً للعديد من الاعتبارات والتي سنتعرض لها في مقال لاحق، لكن من المؤسف أن نجد هذه الأهمية لم تدرك بعد. فعندما يكون هناك قصور في إدراك هذه الأهمية في أوساط العامة فإن الوقع يكون بسيطاً على نفس الإنسان، لكن المعضلة ذات الوقع النفسي القاسي هي عندما لا تدرك النخبة أي كانت (سياسية، علمية، اقتصادية) أهمية التاريخ، مثل سوء الفهم هذا قد يقود إلى انتقاص التاريخ والمؤرخين، بل من اطلع على تعليقات بعض الطلبة المتخصصين في التاريخ على مقال الأمير تركي يرى أنهم يعانون من نقص ثقة في النفس جراء تهميش المجتمع لهم ولتخصصهم، وهذا أمر خطير يجب الانتباه إليه. وقد قيض الله سبحانه وتعالى للتاريخ بعض أبنائه الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عنه وحمل مشعل التنوير سعياً وراء الحصول على اعتراف واضح وصريح بأهميته وذلك انطلاقاً من إدراكهم لهذه الأهمية. وإن كان كل واحد منهم قد حاول أن يؤثر في عقلية مجتمعه انطلاقاً من بعض المداخل التي يرى أن لها قبولاً كبيراً، فهاهو الإمام محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين السخاوي (831-902 ه، 1427-1497م) يؤلف كتاباً أسماه «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ» ويربط فيه بين التاريخ والدين في المقام الأول، وبين التاريخ والجانب الأخلاقي في المقام الثاني، حيث لم يكن للصراع بين التخصصات العلمية والتخصصات الإنسانية وجود آنذاك. يقول السخاوي «وأما فائدته فمعرفة الأمور على وجهها، ومن أجل فوائده أنه أحد الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين المتعذر الجمع بينهما...» و» أما ما لعله يذكر فيه من أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم وسنتهم فهو مع أخبار العلماء ومذاهبهم، والحكماء وكلامهم، والزهاد والنساك ومواعظهم، عظيم الغناء، ظاهر المنفعة، فما يصلح الإنسان به أمر معاده ودينه وسريرته في اعتقاداته، وسيرته في أمور الدين، وما يصبح به أمر معاملاته ومعاشه الدنيوي» و»كذا ما يذكر فيه من أخبار الملوك وسياساتهم، وأسباب مبادئ الدول وقبالها، ثم سبب انقراضها، وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء وما يتصل بذلك من الأحوال التي يتكرر مثلها وأشباهها أبدا في العالم، غزير النفع كثير الفائدة». وقبل عدة أسابيع (الأربعاء 6 أبريل 2011) كتب رئيس قسم التاريخ بجامعة الملك سعود سمو الأمير الدكتور تركي بن فهد آل سعود مقالاً بعنوان «لماذا يوجد قسم للتاريخ في معهد MIT؟» هدف منه إلى تبيان أهمية التاريخ وذلك عن طريق تحطيم الفكرة الخاطئة التي تقول إننا لسنا بحاجة إلى التاريخ في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر العلم، وهذه ولعمري فكرة قاصرة ترى أن التاريخ قد انتهت صلاحيته لأنه ليس هناك ما يستطيع تقديمه. ويمكن أن نرد هذه الفكرة إلى أمرين: الأول، الربط الخاطئ بين التاريخ والماضي. فمع أن التاريخ يتخذ من الماضي مادة له إلا أنه ينطلق إلى الحاضر، بل ويتجاوز ذلك إلى المستقبل. الثاني، عدم الإيمان بالتكامل بين التخصصات، ذلك المبدأ الذي أدركه القائمون على التربية والتعليم في الغرب، ومع الأسف مازال يجهله بعض المسئولين لدينا. يقول الأمير الدكتور تركي بن فهد آل سعود: «ومن هذا المنطلق سوف أسلط الضوء على قسم التاريخ في واحدة من أهم المؤسسات الأكاديمية التقنية في العالم، وهو معهد ماساتشوستس للتقنية Massachusetts lnstitute of Technology لعلنا ننجح في تبيان أهمية علم التاريخ لمن يفتقرون إلى إدراكها. « فعندما يرى الجميع أن إحدى أهم المؤسسات التقنية على مستوى العالم تحتضن قسماً للتاريخ، وهو ليس قسماً مساعداً، بل قسم مستقل يتوافر على فروع التاريخ المختلفة ويمنح درجات الماجستير والدكتوراه في هذا التخصص، فإن فكرة التعارض بين التاريخ والعلم ستسقط وللأبد، وهذا ما وفق سموه في تبيانه. يقول سموه متحدثاً عن ماساتشوستس للتقنية : «نشأ المعهد في خمسينات القرن التاسع عشر الميلادي، وقبل أول طالب فيه في عام ?؟؟؟؟???م. وتركز اهتمامه منذ نشأته حول العلوم التطبيقية، خاصة الهندسة واستمر على ذلك إلى خمسينات القرن الماضي، فتحول من معهد يهتم بالهندسة فقط، إلى الاهتمام بمختلف العلوم. وقد رأى المعهد أن من مصلحة طلبته (الذين يدرسون العلوم التطبيقية) إدخال الدراسات الإنسانية ضمن برامجه إذ لم تدرس به مواد إنسانية أبداً قبل ذلك، عدا مادة واحدة في الفلسفة. ثم بدأ باستقطاب المتميزين في الحقول الإنسانية، ولعل من أبرزهم نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) الأب الروحي للدراسات اللغوية الحديثة. « ثم يخاطب سموه القائلين بعدم الحاجة للتاريخ في عصر التقنية بمفهومهم قائلاً: «ولعلك تتساءل: لماذا يحتاج دارس العلوم البحتة إلى دراسة العلوم الإنسانية؟»، ثم يجيب من خلال ما ذكره القائمون على المعهد. يقول سموه: «ودعنا نلتمس الإجابة في رسالة المعهد نفسه، إذ يرد فيها: «إن رسالة معهد ماساتشوستس للتقنية أن يرتقي بالمعرفة، ويعلم الطلبة العلوم (التطبيقية)، والتكنولوجيا ومجالات علمية أخرى، مما يخدم الأمة والعالم بالشكل الأمثل في القرن الحادي والعشرين». ولعلنا نُضيف إلى ذلك رسالة كلية العلوم الإنسانية بالمعهد ورؤيتها، التي يرد فيها: «للكلية دور رئيس في التعليم العالمي بالمعهد (MIT)، وفي تهيئة الطلبة للقيادة.. ويكتسب الطلبة (في الكلية) منظوراً ثقافياً وتاريخياً وفكراً نقدياً، ومهارات اتصال، مما يعد أساساً للنجاح». ويرد فيها كذلك: «ولمعرفة المعهد بقيمة التعليم متعدد الجوانب فإنه يوفر لجميع طلبة مرحلة البكالوريوس أرضية متعمقة في الدراسات الإنسانية، من الفنون والعلوم الاجتماعية، أن العمق في المنظور والفهم الذي ينتجه الارتباط بهذه التخصصات، لهو من ضمن العلامات المميزة للتعليم في المعهد (MIT)». وقد تفاجأ بأن الجميع طلبة مرحلة البكالوريوس، بمختلف تخصصاتهم (الهندسة والإدارة والعلوم والتكنولوجيا والعلوم الصحية)، يفرض عليهم أن يدرسوا ثماني ساعات في العلوم الإنسانية والفنون». ثم ينتقل سموه إلى تعرية التناقض الذي يقع فيه البعض ممن يؤمنون بهذا المعهد وتميزه، لكنهم لا يعترفون بتبوء قسم التاريخ فيه مكانة مرموقة. ويبدوا أن الإيمان بهذا القسم وتميزه يكون فيما يخص جانبه العلمي والتقني، أما ما يتعلق بجانب التخصصات الإنسانية فإنهم يحاولون غض الطرف عن كل هذا. يقول سموه: «لماذا يقلل البعض هنا في المملكة العربية السعودية من شأن دراسة التاريخ وغيره من الدراسات الإنسانية، على الرغم من إعجاب المسؤولين في التعليم العالي عندنا بمعهد (MIT)»، ويجيب سموه قائلاً: «لعل ذلك راجع -كما لحظته بنفسي- إلى أن هؤلاء المنتقصين من شأن دراسة التاريخ لا يدركون أن المعرفة تراكم وتكامل. إن أشهر جامعة تقنية في العالم تقدم مثل هذه التخصصات لإدراكها التام لهذه الحقيقة، ففيليب خوري، عميد كلية الدراسات الإنسانية فيها لمدة خمس عشرة سنة، يقول: فشل المعهد في ترسيخ فكرة أنه ليس مقتصراً على العلوم التطبيقية فقط، وإنما هو للمعرفة بجميع حقولها. وأن فيه برنامجاً قوياً جداً في العلوم الإنسانية. ويضيف: «كلما وجدت شخصاً متفاجئاً من وجود تخصصات إنسانية في معهدنا (MIT)، أدركت أنه لابد من أن نبذل مزيداً من الجهد، ليتعرف العالم أكثر على إمكانياته.» ثم يواصل سموه متسائلاً: «ولكن ما حجم قسم التاريخ في المعهد؟ وهل هو قسم مساعد، يقتصر على تدريس مواد تاريخية خدمة للتخصصات الأخرى؟ أم أنه قسم رئيس يمنح درجات علمية عالية في التاريخ؟»، ويقول مجيباً: « كانت نشأة قسم التاريخ في المعهد متزامنة مع نشأة كلية الدراسات الإنسانية في أواخر خمسينات القرن الماضي. وكان حتى عام 1989م، يعد قسماً مساعداً يدرس أساتذة مواد التاريخ لطلبة الجامعة من مختلف التخصصات. وهو الآن يمنح درجة البكالوريوس، ويمنح درجات الدراسات العليا بالتعاون مع البرامج الأخرى في الجامعة. أما الحقول التي يغطيها القسم، فهي: التاريخ القديم، والوسيط والحديث والتاريخ الوطني الأمريكي، أي بعبارة أخرى: هو قسم كامل كأي قسم للتاريخ في أي جامعة أمريكية». وينهي سموه مقاله بطلب من صناع القرار في الجامعات السعودية للاهتمام بالتاريخ قائلاً: « وأخيراً، بعد ما استعرضته عن معهد (MIT) واهتمامه بقسم التاريخ، والعلوم الإنسانية الأخرى، على الرغم من أنه معهد تقني - فإنني أدعو المسؤولين وصناع القرار في جامعة الملك سعود والجامعات السعودية الأخرى، إلى مراجعة تصورهم ونظرتهم إلى أقسام التاريخ لدينا، فهي خيار إستراتيجي للجامعات وللوطن، وجدير بأن يلقى كل اهتمام». وقد أجاد سموه في ختمة هذا المقال بهذه الدعوة التي جاءت نتيجة تسلسل منطقي للأفكار تعامل مع المهمشين للتاريخ من منطلق عدم مناسبة لعصر العلم، حيث بين لهم أن أكثر دول العالم تقدماً ونهضة علمية مازالت تقدر التاريخ كتخصص وتقدير المؤرخين كعقول قادرة على خدمة مجتمعاتها وخدمة الإنسانية بشكل عام. وبين الإمام السخاوي والأمير الدكتور تركي بن فهد آل سعود يبقى السؤال متى سيتبوأ التاريخ مكانه الطبيعي بين التخصصات الأكاديمية مما سينعكس إيجاباً على المؤرخ وعلى الوطن، بل لا أبالغ إذا قلت على البشرية جمعاء؟