كنت في قراءة مباركة في كتاب الله وفي سورة إبراهيم فوقفت وتوقفت عند قول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار) أمسكت عن القراءة وتأملت في واقعنا العربي وما في بعضه من مظاهرات أثارت الفتن والاضطراب وفرقت بين شرائح المجتمعات، وأخلت بالأمن إخلالاً ظهر فيه انتهاك الحقوق من سلب ونهب واغتصاب وسفك دماء. وقفت متأملاً هذه الآية الكريمة وكيف أنها تتحدث قبل أربعة عشر قرناً عن هذا الواقع الأليم في القرن الخامس عشر الهجري، وقد قرأت كتاب الله مرات ومرات ووالله وأنا أقرأ هذه الآية الكريمة أكاد أجزم وأؤكد أنها لم تنزل إلا هذه الأيام لتؤكد واقع مجتمعاتنا المضطربة، واقع دعاة السوء والفتن والاضطراب ومذاهب الخوارج وأنهم كفروا بنعم الأمن والاستقرار وأحلوُّا قومهم دار البوار.. تذكرت وأنا أشعر بشعور أن هذه الآية الكريمة لم تمر على لساني وقلبي إلا هذه الأيام تذكرت حادثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحدثته هذه الحادثة من ضجة واضطراب وقلق حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تقلَّد سيفه وظهر في أسواق المدينة يقول: من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه فأخذه أبوبكر رضي الله عنه وقال يا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمدا قد مات ثم تلا قول الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...) إلى آخر الآية الكريمة فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال: والله لقد قرأت كتاب الله مرات ومرات وكأن هذه الآية لم تنزل إلا الآن. وأنا الآن أقول والله لقد قرأت كتاب الله مرات ومرات وكأن قول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار) لم ينزل بها الوحي إلا الآن، صحيح أن لبعض هذه المظاهرات نتائج ايجابية إلا اننا حينما نقيسها بسلبياتها المخلة بالأمن والاستقرار المبدلة نعمة الله على عباده بالأمن والرخاء والحياة الآمنة الهادئة الضامنة الحفاظ على الحقوق العامة والخاصة ما انتجته من الانتهاك والاختراقات والتعدي ونشر الفوضى والاضطراب والتسلط على المواطنين بالسلب والنهب والاغتصاب، وإراقة الدماء وتبدل الحياة من استقرار وأمن وهدوء إلى دار بوار تحكمها شريعة الغاب والاستبداد والتسلط وضياع المسؤولية لاسيما إذا كانت الأهداف من اختراقات الأمن يتلقاها كفار النعمة وادعياء الوطنية يتلقونها من جهات أجنبية ظاهرة عداوتها للبلاد وأهلها واتجاهها وثوابت هويتها. لاشك أن المظاهرات الجالبة للبلاد الفتن والتفرقة قد أفرزت الكثير من التجاوزات والتأثيرات البالغة على مرافق البلاد ومسالكها من حيث اختلال الأمن وفوضية الاقتصاد والخسائر المادية في ممتلكات الدولة وضياع المسؤولية عن ضياع الحقوق والاعتداء عليها حيث تبدلت الحال من حياة هادئة هانئة آمنة إلى دار بوار وشؤم وشنار ونصيحة من ذوي النظر والاختصاص بلزوم الدار. إن الولاية العامة للبلاد من أغلى المقاصد والأهداف الشرعية وقد جاءت النصوص الشرعية بلزوم الجماعة والسمع والطاعة لولاة الأمر مهما كان من التقصير إلا أن يصل الأمر إلى حد الكفر البواح وقد استباح أصحاب رسول الله قتال الخارجين على الولاية العامة وإن كان الخارجون على الولاية يدعون الإسلام فمن خرج على إمامة عامة قائمة فعقوبته القتل.. وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير الحج في احدى سنوات حكمه وقد تزوج في حجه بامرأة من أهل منى فأتم بالحجاج الصلوات الرباعية في أيام التشريق بحجة أن له أهلاً ومستقراً في منى وانه لذلك لا يجوز له القصر فجاء بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن مسعود يشتكون عثمان على تركه سنّة رسول الله في قصر الصلاة الرباعية فقالوا له يا أبا عبدالرحمن ألا تعرف سنّة رسول الله في قصر الرباعية أيام منى - أيام التشريق - فقال لهم أعرفها وأخشى الفتنة فقد علل عدم الإنكار على عثمان باختلاف الكلمة وظهور الفتن.. وأحمد بن حنبل رحمه الله حينما اعترض على القول بخلق القرآن وعدم استجابته بالإرغام بالقول بذلك حبسه المعتصم وآذاه فطلب منه تلاميذه الدعاء عليه فقال: والله لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر إذ بصلاحه صلاح الأمة.. ولا يخفى أن التوجيه الشرعي بطاعة ولاة الأمور مقابَل بوجوب النصح لولاة الأمر والتعاون معهم في سبيل خدمة البلاد وأهلها والمحافظة على حقوقها وخزانة قوتها وأن على ولاة الأمر مسؤولية تحمل متطلبات الولاية وفي أول قائمة هذه المتطلبات المحافظة على الأمن بمختلف أجناسه وأنواعه، والضرب بيد من حديد على من يريد أن يعبث بهذه المتطلبات ويحل قومه دار البوار. نسأل الله تعالى أن يمن على المسلمين بالأمن والايمان والسلامة والإسلام وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن طاعه واتقاه واتبع رضاه والله المستعان. * عضو هيئة كبار العلماء