(الشعر الخالص) هو الغنائي الذي يتدفق من القلب كما يتدفق الدم.. إنه يحفظ للشاعر سلامته النفسية بتحرير عواطفه وتطهير مشاعره، ولأن الإنسان يغني حين يفرح أو يحزن أو حتى يسأم فإن المتنبي - رغم شهرته - كانت أفراحه قليلة، أما أحزانه فكتم معظمها بكبريائه ودفنها بفخره (واقتل الحزن دفينه) ورغم ذلك تصدر منه آهة هنا أو هناك، ولكنه كثيراً ما يتبعها بزمجرة ليثبت أنه (الرجل القوي). فقد كانت فلسفة المتنبي تقوم دائماً على القوة.. أما السأم فهو نادر في حياته؛ لأنه ملأ الدنيا وامتلأ بالآمال ونأت به موهبته الشعرية الجبارة عن قفص السأم والفجر. إن الشعر الغنائي لا تكلف فيه ولا زيف ولا كذب، ولا تلك الصفات التي تشوب أكثر أغراض الشعر العربي القديم، وخصوصاً المديح الذي نال النصيب الأوفر والتهم مواهب الشعراء، حتى الغزل كثيراً ما جاء تقليداً من غير العاشقين، (أما الغزل من شعر عاشق بحق فهو غنائي بلا شك).. الغنائي هو الإنساني.. هو حديث النفس الصادقة وشعورها العاري إزاء مواقف تثير الأعماق كرثاء الأعزاء فعلاً وليس رثاء ممدوح رحل طمعاً في نوال خلفه « فقد أعد البحتري، مثلاً قصيدة رثاء في خليفة ظنه على وشك الموت، وحين لم يمت عدل فيها وقالها في قريب للخليفة مات قبله!». فإذا رثى الشاعر ابناً له - كما فعل أبو تمام وابن الرومي وابن عبدربه - فإن الشعر هنا ذروة الشعر الغنائي المحموم بالوجد المترع بالصدق ونجده بسيطاً خالياً من الألفاظ الكبيرة والصور المعقدة والتراكيب الفخمة التي يلجأ إليها الشاعر عندما يرثي آخر لمجرد المصلحة فيصنع الشعر صناعة، ويستعين بمخزون البلاغة لفراغ مخزون المشاعر الصادقة، التي لا تحتاج في البوح بها لأكثر من البوح الذاتي المملوء بالشعور البشري البعيد - في أساسه - عن التكلف والصناعة. ومع ان معظم شعر المتنبي جليل - حتى حين يمدح لأنه يسخر موهبته الجبارة ويقول هذا أنا - إلاّ ان شعره الغنائي - رغم اعتداده - أصدق وأبقى وأبعد تأثيراً في شعور الإنسان السوي، الذي يتذوق الفن الحقيقي البعيد عن المصالح والأغراض، النابع من أعماق الفؤاد، ومن أشعاره الغنائية: 1- «وأتعب خلق الله من زاد همه وقصر عما تشتهيه النفس وجده وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلباً بين جنبي ماله مدى ينتهي بي في مراد يحده يرى جسمه يكسى شفوفاً تربه فيختار ان يكسى دروعاً تهده يكلفني التهجير في كل مهمه عليقي مراعيه وزادي ربده شخص سيره نحو أهدافه المعنوية بسيره في شمس الصحراء (في القايلة) فلا زاد له إلاّ ما صار من نعام (ربد). 2- بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن أريد من زمني ذا ان يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن لا تلق دهرك إلا غير مكترث ما دام يصحب فيه روحك البدن 3- أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونه وأطارد وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد 4- على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوباً أو شمالاً فما حاولت في أرض مقاماً ولا أزمعت عن أرض زوالا 5- ذريني أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل تريدين لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من ابر النحل 6- وا حر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم يا اعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وانت الخصم والحكم انا الذي نظر الأعمى إلى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم 7- ومن لم يعشق الدنيا قديماً ولكن لا سبيل إلى الوصال نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال رماني الدهر بالارزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال فكنت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال نعد المشرفية والعوالي وتقتلنا المنون بلا قتال يدمن بعضنا بعضاً ويمشي أواخرنا على هام الأوالي