مرحلة الطفولة هي القاعدة والأساس الركيز الذي تبنى عليه شخصية أبنائنا، وإقحامهم في حياة غير مستقرة ومعاناتهم من أمراض مزمنة تجبرنا على وضع الكثير من الخطوط الحمراء على معظم أمور حياتهم، كالبقاء في المستشفى فترات طويلة دون أنيس، أو فقدانهم أحد أعضائهم، فمرضى السرطان يخبئون تحت قبعاتهم مأساتهم الحقيقية؛ بسبب فقدان شعر الرأس، ومريض السكر يلاحقه "شبح الإبرة" وحرمانه من الحلوى التي يعشقها. يبدأون حياة جديدة ليس لهم فيها وجود، صمتهم ودموعهم الحبيسة نتجاهلها وقد ندفع ثمنها، قد نحاورهم بمنطق الكبار ونطالبهم بالصبر على الأقدار، وقد نؤلمهم بتذكيرهم بمأساتهم، كنعتهم باليتيم والمريض الذي يجب عدم اللعب معه!. تخصصات دقيقة في البداية يقول "د.أحمد الحريري" -الباحث والمعالج في الشؤون النفسية والاجتماعية -: في الحقيقة الأطفال يعانون من الاضطرابات النفسية مثلهم مثل الكبار ولا فرق في ذلك إلاّ في درجة التحمل، لذلك هناك تخصصات دقيقة تعني بعلاج الأمراض النفسية لدى الأطفال والمراهقين، فضلاً عن العلوم التربوية النفسية المتعددة، والتي تركز على الطفل باعتباره أنه مستقبل الأمة وحاضر التطور والتقدم المعرفي والحضاري، مضيفاً أن الأسرة التي تريد أن تكون لها هوية في مجتمعاتها، هي تلك الأسر التي تهتم بأطفالها بعيداً عن "القمع" و"القسوة" في التعامل، وبعيداً عن الإهمال واللامبالاة، وبعيداً عن "التذبذب" في المعاملة. وجود الخدم والسائقين ترك الأبناء يعيشون مثل «الأيتام».. الأم والأب «صوريون»! تصدع وتراخ وأضاف أنه بات من المعروف أن الأطفال المحرومين الذين عاشوا في بيئات "متصدعة" يملؤها العنف، أو أولئك الأطفال الذين عاشوا في بيئات "متراخية" يملؤها الدلال وعدم الضبط، فهذه البيئات تنتج أطفالا غير مستقرين، قد يكونون في يومٍ ما ضمن قائمة غير الأسوياء، وفي المقابل من المعروف أن البيئات التي تربي أبناءها على الضبط والتحكم والاعتماد على أنفسهم، إلى جانب تنمية المعرفة لديهم وأساليب التكيف الصحيحة في أجواء من الرأفة والرحمة، تنتج أطفالاً قادة مبدعين مسؤولين وطنيين، يكونون بإذن الله خير سفراء لأسرهم ولأوطانهم ضغوط نفسية وأوضح أنه فضلاً عن هذه الظروف المكتسبة والخبرات الحياتية كعامل مؤثر في نمو الأطفال نفسياً وسلوكياً وعقلياً وبدنياً، لا ننسى الاستعدادات الوراثية وما لها من تأثير في حياة الأطفال، مضيفاً أنه من المؤكد أن الضغوط النفسية التي يمر بها الأطفال نتيجة الأساليب التربوية الخاطئة والظروف الحياتية السيئة، تؤدي إلى استنهاض الأمراض والاضطرابات النفسية الوراثية وتعجل بظهورها، وبالتالي تؤدي إلى تراكمات أخرى من مظاهر عدم التكيف النفسي والاجتماعي، وما ينتج عن ذلك من سلوكيات انحرافية محتملة، مشيراً إلى أنه من المهم جداًّ عرض الطفل المريض نفسياً على أخصائي نفسي لعلاجه قبل تفاقم المشكلة وتطورها. بقاء الأم بجانب ابنها يمنحه القدرة على تخطي الأزمات النفسية مستقبلاً التنشئة السليمة وذكر أنه من المؤكد أن الأسرة تتحمل العبء الأكبر في تربية أبنائها، خاصةً في مرحلة ما قبل الخمس سنوات الأولى، حيث تتشكل معظم الملامح الأساسية لشخصياتهم، لتأتي المدرسة وتسهم في هذه العملية التربوية وهذه التنشئة، وفي بناء جدار الصحة النفسية لديهم، مضيفاً أن المجتمع لا تخفى بصمته وتأثيراته على سلوك وصحة الأطفال النفسية، لكن ما يهمنا هنا هو الأسرة ودورها الأساسي في تربية أبنائها، ودور الأم في التعليم والتدريب، حيث إنه من الواجب أن تكون مسؤولة عن أبنائها بجانب مسؤولية الأب الكبيرة، مشيراً إلى أنه قد يعيش الأبناء مثل عيشة الأيتام بالرغم من وجود آبائهم وأمهاتهم، لكنهم للأسف آباء وأمهات لا يعدون في بعض الأحيان أن يكونوا آباء وأمهات "صوريين"، فمنهم من عهد بأبنائه للخدم والسائقين، ومنهم من عهد بتربية أبنائه للظروف خارج محيط الأسرة وللآخرين، بل ولا يتعدى دور الآباء والأمهات أحياناً كونهم منجبين لهؤلاء الأبناء فقط، وكما قال الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه *** من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أُمّا تخلّت أو أباً مشغولاً أساليب خاطئة وتساءل: كم لدينا أم متخلية؟، وكم لدينا أم متهمة بالتخلي؟، وكم لدينا أب مشغول؟، وكم لدينا أب متهم بالانشغال؟، مبيناً أن ذلك ليس من الأمانة التربوية، وليس من تحمل المسؤولية تجاه الأبناء، أو تحمل المسؤولية الزوجية التي لا تنتهي بفعل الزواج فقط، بل تستمر إلى تربية الأبناء وتطوير قدراتهم الذهنية ومهاراتهم السلوكية، وفي الحقيقة أنه سؤال متأخر عندما يسأل بعض الآباء لماذا أبناؤنا متورطون في قضايا؟، ولماذا تهرب فتياتنا؟، ولماذا لا يبقى أبناؤنا في المنزل؟، وغير ذلك من الأسئلة المتأخرة التي ما هي إلاّ نتائج وإجابات منطقية لأساليب تربوية خاطئة ومعاملة والدية فاشلة. د.أحمد الحريري قدوة حسنة وأضاف: ما نسمعه دائماً من بعض الآباء والأمهات وهم يتحدثون عن أبنائهم ويقولون: "ماقصرنا عليهم بشيء"، أقول لهم: ومن قال لكم أن التربية تعني أن توفروا لهم كل شيء مادي!، مبيناً أن ذلك ليس من التربية، بل يجب توفير نموذج سلوكي جيد بدءاً من القدوة في أنفسكم، وكل متابعة تعليمية، وكل أُلفة أسرية، بل وكل تعايش سلمي في المنزل، إلى جانب كل الآداب الإسلامية والأخلاقية، وكل وسيلة مفيدة لإشغال وقتهم بالمفيد، وكل نوم مبكر في الليل، وكل استيقاظ مبكر، بالإضافة إلى كل اهتمام وعناية يتعلمونها بذاتهم، لافتاً إلى أنه لو طبقت بتشدد معايير وقوانين العنف على الأطفال، لأصبح كثير من الآباء والأمهات متهمين بممارسة العنف على أطفالهم، هم ربما لا يعلمون أن سلوكهم قد يُجّرم أحياناً!. احتواء الأطفال من الوالدين أفضل علاج نفسي مسؤولية الآباء وذكر أن أولئك الآباء والأمهات الذين يُغيّبون أبناءهم عن المدرسة ولا يتابعون دروسهم اليومية، قد يتهمون بالعنف التربوي الممارس على الأطفال وفي بعض الدول يحاكمون، وأن أولئك الآباء والأمهات الذين لا يعرفون ما يأكل أبناؤهم وقد يتسممون أو تتضرر صحتهم نتيجة غذائهم، قد يتهمون بالعنف الصحي والإهمال للأبناء، وأولئك الآباء والأمهات الذين يضربون أبناءهم ويقسون في تعاملهم قد يتهمون بالعنف البدني والنفسي على أبنائهم، مضيفاً أن بعض أدبيات علم النفس ذكرت أكثر من ثلاثين نوعا من أنواع العنف الذي قد يمارس على الأطفال، الذين لا حول ولا قوة لهم ولا ذنب لهم فيما يخطئون به، فهم يتعلمون من أخطائهم إذا وجدوا آباء وأمهات يتابعونهم، وهم ينمون مداركهم إذا وجدوا آباء وأمهات يحرصون على تنمية ذلك، مشيراً إلى أنه لكونهم صغاراً غير مكلفين بأشياء كثيرة، فإن آباءهم يتحملون كثيراً من التكاليف تجاه هؤلاء الأطفال. معاناة ابنتي وتحكي لنا "أم بيلسان" تجربتها مع ابنتها المصابة ب"مرض البهاق" وتقول: أعلم جيداً ما تعانيه ابنتي من اضطرابات ومشاكل نفسية، خاصةً بعد أن تعدت بقعة "البهاق" جسدها واتجهت نحو وجهها الصغير، والذي تحاول أن تخفيه عن الأنظار كلما نظر إليها أحد، مضيفةً أنه يحزنها حالها خاصةً مع زميلاتها في المدرسة، والتي دائماً ما ينعتونها بأوصاف تدمر نفسيتها، مؤكدةً أنه لا سبيل لها سوى التخفيف عنها والدعاء، مع رغبتي الملحة في عرض ابنتي على طبيب نفسي يرشدني إلى كيفية تعزيز ثقتها بنفسها، خاصةً مع صغر سنها، فهي تدرس الصف الخامس الابتدائي. فشل الأساليب وتشير "أم يزيد" إلى أنها تعاني كثيراً مع ابنها الأوسط ذي السبع سنوات وتقول: كثيراً ما تفشل أساليب التربية الحديثة من حوار وغيرها مع ابني، مما يضطرني إلى ضربه أحياناً دون رحمة، فهو عنيد جداًّ، بل ولا يسمع الكلام أبداً إلا تحت التهديد، رغم ما أوفره له من جميع ما يحب من وسائل لعب وترفيه، إلا أنني أشعر أنه يستمتع بمعاندتي، فما أقوله له يفعل غيره، مشيرةً إلى أنه حيرها كثيراً في كيفية التعامل معه، رغم أن إخوته الأكبر منه وكذلك الأصغر عكسه تماماً. افتقاد الثقة وتشاركها "أم لمار" معاناتها وتقول: تطلقت من زوجي الأول وتزوجت بعده بسنتين من شخص طيب ذي أخلاق، ارتحت نفسياًّ بعد معاناتي السابقة من زوجي الأول، إلا أنني أجد أن ابنتيَّ غير ذلك، فهما تفتقدان لثقتهما في أنفسهما، فابنتي الصغرى لا تفارق أصبعها "فمها"، حتى أن جلدة اليد قد تآكلت، مضيفةً أن كلتيهما تعاني من "التبول اللاإرادي"، فالكبيرة في الصف الأول متوسط، والثانية في الصف الثالث ابتدائي. ضرب وتوبيخ وتوضح "أم هيثم" أن والدتها تعاني كثيراً من زوجة أخيها القاسية والجافة التعامل مع أبنائها، فهي دائمة الضرب و"التوبيخ" لهم على أتفه الأسباب، مما يضطر الأطفال إلى الاستنجاد ب"جدتهم" لحمايتهم من عنف والدتهم، مضيفةً أن زوجة أخيها لاتهتم كثيراً بالحديث مع أبنائها أو تلبية رغباتهم، أو معرفة ما يحبون ويكرهون، مشيرةً إلى أن أكثر ما يقلقها على أبناء أخيها هو ظهور اضطرابات نفسية في سلوكياتهم أثر على مستوى تحصيلهم الدراسي وتواصلهم مع من حولهم.